"اذهب يا بني إلى الداخل لتأخذ قسطاً من الراحة " قالها لي ذلك الرجل العجوز الذي يعمل معي في إحدى الحدائق العامة بالقاهرة . نظرت إليه بعين واهنة دون أن أنبس ببنت شفة. أحكمت إغلاق معطفي جيداً وتوجهت إلى داخل الحديقة لاعناً ذلك اليوم الذي قبلت فيه هذه الوظيفة، ألم يكن من الممكن أن يرزقني الله بوظيفة أفضل من هذه، ما قيمة حارس حديقة، هل يخافون على الأشجار من السرقة. حاولت الضحك في داخلي لكي أكسر ذلك اليأس الذي بدأ طريقه بالزحف إلى صدري. "هل أنت ساخطة مثلي من البقاء في هذه الحديقة " ألقيت تلك العبارة وأنا اشرع في التمدد بجوار واحدة من الأشجار الضخمة في الحديقة. يبدو من هيئتها أنها تمتلك عمراً يضاعف عمر والدي رحمة الله عليه. ماذا كان سيحدث لو لم يمرض والدي قبل وفاته، لو لم يضطر لبيع شركته لكي ينفق علينا أنا وأخواتي ومرضه الخطير الذي أقر جميع الأطباء أنهم لم يواجهوا ذلك المرض من قبل لأنه وببساطة مرض نادر. لعنة الله على جميع الأمراض النادرة ، ألم تجد غير جسد والدي لتستقر بداخله ؟!...ألم تعلم أني كان من الممكن أن أكون مديراً لتلك الشركة الآن ؟!... وأن أكون الآن نائماً في أحد الفنادق الفخمة بدلاً من تلك الأرض الصلبة المليئة بالحشرات. حاولت أن أنفض تلك الأفكار البائسة عن رأسي وأرضى بما قسمه الله، بدأت في إغماض عيني في محاولة مني لدعوة النوم علي سرير جفني، لكن ما حدث كان كفيلاً بأن يهرب مني النوم لمدة عامين قادمين ، بل ومن الممكن أن أحاول أن أهرب أنا مني. *** بدأ الضباب يتكتل في صدر السماء، وبدأت أصوات الرياح تعلو من حولي وكأنها في حفلة من حفلات العزف المنفرد. تحول النهار إلى ليل مخيف شعرت معه وكأني قد أصبت بالعمى، ولكن ما أكد لي كذب أحساسي أني رأيت الشجرة التي أجلس بجانبها تهتز وكأنها تحولت إلى ثعبان من ثعابين الكوبرا، نفضت من عليها أوراقها لتسقطها على الأرض من حولي والتي تناثرت أجزاء منها على جسدي الذي لم أعد أشعر به من هول ما يحدث. بدأت أوراق الشجر في التطاير ولكن ما حدث هو الذي جعلني أقسم أني في عالم أخر غير عالمنا. لقد كانت أوراق الشجر تنجذب إلى بعضها البعض وبدأت في التشكل في شكل... ما هذا؟! لقد أقشعر بدني عندما وجدت جسد بشري يتشكل أمامي من أوراق الشجرة ... ما الذي يحدث؟ هل فقدت عقلي أم أني قد لقيت حتفي؟! أنقشع الضباب من السماء، وسكنت الرياح بعد أن قامت بمهمتها في تكوين الجسد البشري الذي ظل ينظر إلي بعض من الوقت، أعتقد أنه قد مر علي وكأنه دهر كامل. بدأت في محاولة فاشلة مني أن أحاول استيعاب ما يحدث حولي. بدأ الجسد البشري الشكل والنباتي الهيئة في الإشارة لي بأن أتقدم نحوه، لم يكن يعلم بأن قدمي قد أصبحت رخوة بالقدر الذي يجعلها لا تصلح للاستخدام بعد الآن. بدأت في الزحف للخلف قليلاً ولكني وجدت أن المسافة بيني وبينه لا تزيد بل تظل كما هي، اعتقدت أنها نهاية المفاجآت في هذا الصباح الذي أعلم منذ بدايته أنه لا يبشر بالخير مطلقاً، المفاجأة التي أفقدتني النطق، عندما وجدت هذا الكائن قد بدأ في التحدث. - هل أنت خائف يا ابن آدم ؟ لم أقو على النطق بحرف واحد، أو أني قد حاولت وفشلت، لا أعلم ولكن ما أعلمه حقا هو غضب هذا الكائن مني والذي جعلني أستشعر به من دوران أوراق الشجر حول بعضها مرة أخرى ونبرة صوته التي جعلتني أحاول أن أتكلم بكل ما أوتيت من قوة ولو لم ينصاع لساني لأوامري فمن الممكن أن انتزعه من مكانه واستبدله بأخر كي لا يغضب هذا الكائن مرة أخرى. - أجب عندما أحدثك. خرجت حروف كلماتي مجهدة وكأنها كانت في رحلة ما بين لساني وشفتي: - لا أعرف ماذا تريد. - هل أنت خائف مني؟ - نعم. - ولماذا تخاف مني؟ هل أنا أقتل؟ هل أنا أخون؟ أهل أنا أعبث بالطبيعة؟ هل أنا بشري؟ - لا ولكنها المرة الأولى لي أن ألتقي فيها بشجرة في هيئة إنسان. - لا تخف، لقد كانت طريقة مني لأني أريد التحدث معك. - أعتذر بشدة، فقد حان موعد عودتي للعمل. - لا تقلق، أنا أريد فقط أن أعلم ماذا بك. أنتهي من جملته الأخيرة وقد بدأ في التحرك نحوي ليجلس بجواري، لا أدري لماذا هذه المرة لم أتحرك أو أخاف من اقترابه مني. - هل تعلم بأني من موقعي هذا أسمع و أشعر بما يدور من حولي من أفعالكم. - كيف؟! وماذا الذي يدور من حولك؟ - لقد سمعتك مثلاً وأنت تشكو من حالك وتلعن تلك الظروف التي أتت بك إلى هنا. !!!!!- - أنتم جميعاً بني البشر دائماً ساخطون على ما أنتم فيه. لا أعلم لماذا بدأ خوفي في الزوال إلى حد ما، شعرت ببعض من الود في حديث ذلك الكائن الذي قد كانت كلماته هادئة قليلاً. - لا.. نحن لسنا ساخطين، بل نحن نريد أن نسعى للأفضل دائماً. - ألا تعلمون أن الله تعالى قد يسر لكم كل شيء في هذه الحياة، ألا تعلمون أن الله قد خلقكم أفضل الكائنات. - نعم نعلم، ولكن لسنا جميعاً ساخطين كما تصفنا. - يا صديقي.. قد قلت لك في أول حديثي أني في موقعي هذا أستطيع أن أشاهد وأسمع كل ما يدور حولي من أفعالكم. - وما الذي يدور حولك ويجعلك تتهمنا بالسخط إلى هذا الحد. - سأروي لك بعض مما يحدث من حولي، وإن كنت على حق قر بصدق كلامي وبأنكم حمقى، وإن لم يكن فبادرني بالحجة التي لديك.. اتفقنا؟ في تلك اللحظة شعرت بأن هذا الكائن أصبح ودود إلى حد ما، على الرغم من إن هيئته ما زالت تثير ريبتي، ولكني قد بدأت في التعود عليها، فأجبته و أنا على يقين تام أن لدي الحجج والأسباب المقنعة: -اتفقنا. - ذات يوم جلس بجانبي شاب وفتاة، كانت الفتاة تبكي بالطريقة التي جعلتني أشفق عليها، من الواضح أنهما أحباء، زادت الفتاة من بكائها وهي تتذكر ما حدث لها: "ألم تكن تعلم مثل تلك الظروف قبل أن تطلب مني أن أسلم لك جسدي، وقد أصبحت غير مؤهلة للزواج من أي شخص غيرك؟" نظر الشاب في الجهة الأخرى كي لا تلتقي نظراته بنظرات الفتاة البائسة وقال بلهجة غير مبالية: "أنت فعلتي ذلك بإرادتك لما أرغمك على هذا" مسحت الفتاة دموعها في محاولة منها لعدم لفت انتباه المحيطين بهم: "وما الحل من وجهة نظرك؟" أحس الشاب في تلك اللحظة أنه قد بلغ ما يريد: "أمامك خيارين، إما أن تصبري وتنتظرين أن أحقق ذاتي، وإما أن توافقين على أي رجل يتقدم لزواجك وفي الحل الثاني لا أعرف ماذا ستفعلين معه" وتركها الشاب وذهب وظلت الفتاة جالسة تبكي حالها التي وصلت إليه، إلى أن حل الظلام وذهبت. لم أستطع أن أجد أي رد أو حجة على مثل تلك الكلمات التي قصها، ولكن كان يجب أن أحافظ على صورة بني نوعي أمام الكائنات الأخرى: - إنها حالة واحدة من ضمن الحالات، ولكن لدينا علاقات بين رجال ونساء ناجحة جداً، وتكلل بالزواج. - يا صديقي إن ذلك الموقف يتم أمامي هنا بصفة مستمرة. - ونحن تعدادنا كبير جداً، وتلك النسبة لا تمثل في العلاقات الإنسانية شيء يذكر. - هل تريد أن أروي لك موقفاً أخر؟ - نعم.. بالتأكيد، لكي أريك أننا لسنا كذلك. - اتفقنا.. في ذات يوم جاء شاب في مقتبل العمر ومعه سيدة عجوز دعاها إلى الجلوس بجانبي وأخذ يربت على كتفها ويمسح على رأسها ويقبل يديها ثم قال لها: "يا أمي لقد أتيت بكي اليوم إلى هنا لأني أعلم أنك لم تخرجين من المنزل منذ زمن بعيد، وأردت أن أفرحك، لأني أعلم كم تحبين المساحات الخضراء" "أكرمك الله يا ولدي مثلما أكرمتني، وبارك لك وفي زوجتك وأبنائك" "أنا محرج منك قليلاً يا أمي ولا أدري ماذا أقول لك" أخذته في أحضانها وأخذت تهدهده كالطفل الصغير: "تحدث يا بني لا تخجل فأنا أمك، التي حملتك ووضعتك في هذه الدنيا، أنا من كنت أمرض حين تمرض، وأنا التي أفرح حين تفرح، أنا التي أريد أن أخذ من سعادتي وأعطيها لك، ماذا تريد يا ولدي؟" مسح الشاب دمعة صغيرة قد فلتت من عينيه: "أنت تعلمين يا أمي أن المنزل قد أصبح صغيراً علينا أنا وزوجتي و أولادي وأنت، ولقد فكرت لي زوجتي في حل قد يجعلنا جميعا سعداء" "وماذا اقترحت زوجتك؟ هل تريد أن نشتري منزلا أخر أكبر من ذلك؟" "أنت تعلمين يا أمي أنني لا أملك المال الكافي لشراء منزل جديد في الوقت الحالي، ولكننا قد رأينا أننا من الممكن أن نذهب بك إلى واحدة من دار المسنين تقيمين فيها إلى أن أشتري منزل أكبر بقليل" أجهشت الأم من البكاء وكذلك الولد، ولكنها سرعان ما مسحت دموعها وقالت له بنبرة تحمل حنان الأم: "أنا أريد سعادتك يا ولدي، أفعل ما تريد وأنا موافقة على أي شيء يجعلك سعيدا" قام الولد مسرعاً: "سأحضر لكي سيارة لكي نذهب الآن" ذهب الولد وظلت الأم تبكي إلى أن جاء ابنها مرة أخرى وأخذها وذهب. لا أعلم إن كان ذلك الكائن قد شاهد تلك الدمعة التي انحدرت من عيني أم لا، لكني أدعو الله أنه لم يكن شاهدها كي أستطيع مواجهته والدفاع عن بني جنسي. - هذه حالة أخرى فردية يا صديقي، ويوجد علاقات اجتماعية أنجح بكثير وتدل على أن بني البشر سيظلون الأفضل دائماً. - لا تريد أن تعترف أنكم حمقى تسعون خلف مصالحكم وخلف ما تريدون فقط، لا تشعرون بالضعفاء منكم، وعندما تأتيكم الفرصة تتجبرون على من هو أضعف منكم. - لسنا جميعاً كذلك.. يوجد الأفضل. - أذكر لي علاقة اجتماعية ما وأنا سأريك ماذا يحدث بين أفرادها. - سأذكر لك علاقة قد تتشابه إلى حد ما بأخر علاقة ذكرتها لي، علاقة الأخوة ببعضهم، أمرت عليك مثلها من قبل يا صديقي. بدا على وجهي شبح ابتسامة وكأني شعرت بأني سأنتصر قريبا. - نعم يا صديقي.. لقد مرت علي مثل هذه الحالة وسأرويها لك، ولكن عدني بأنك ستعترف بأنكم حمقى وأنكم يجب أن تغيروا ما بأنفسكم، وتعيدون النظر في ما أنتم فيه، لكي تعودوا كما خلقكم الله. و بلغة الواثق من نفسه أجبت: - أعدك. - في ذات ليلة شديدة البرودة وقد أقترب أذان الفجر، جاءت فتاة جلست بجانبي تبكي وهي صامتة ولا تتحدث، إلى أن حان موعد أذان الفجر وبدأت التكبيرات تعلو المآذن، زادت الفتاة من بكاءها وبدأت في الدعاء والشكوى إلى الله: "يا رب أنت أعلم بحالي، أنت تعلم أن ما قد وصلت إليه كان رغما عني، هل ستغفر لي يا رحمن؟، هل سترحمني مما أفعل، يا إلهي لما خلقتني في مثل هذه الأسرة، هم يعلمون جيداً أن أخي هو الذي هتك عرضي، لكنهم لم يجرؤا على الاعتراف بذلك، أنهم يخشون منه لا منك يا الله، أنهم اتهموني أنا بالساقطة، أنا التي دائماً كنت أحافظ على صلواتي وألتزم بتعاليم ديني، أنا من كنت أبر والدي، وها هم يطردونني خارج المنزل، لأفعل ما أفعله الآن، يا الله أنت ولي الصابرين ووليّ ، أرحمني واسترني في الدنيا ، اللهم إني مغلوبة فانتصر" ظلت الفتاة تبكي وتناجي المولى عز وجل إلى أن خرجت روحها وهي جالسة بجانبي تناجي ربها. لم أستطيع أن أتحدث أو أن أجادل بعد هذه الكلمات، ظللت أبكي ولم أهتم إن كان هذا الكائن قد شاهد دموعي أم لا... ظللت أبكي فقط... * * * * * " استيقظ يا بني، ماذا بك " أيقظني ذلك الرجل الذي يعمل معي في الحديقة، لأجد دموعي قد أغرقت وجهي. " أكنت تبكي ؟! هل حلمت بكابوس ؟ " قال كلمته الأخيرة وهو يعطيني منديل كي أمسح دموعي، نظرت إليه ولم أجب، فقط نهضت وذهبت وأنا لا أريد لدموعي أن تتوقف، عسى أن تنظف ما حل بنا من ذنوب وصفات سيئة قد لوثت طبيعتنا.. قد دنست تلك الهيئة القدسية التي خلقنا الله عليها. .