استحوذ ببساطته على كل القلوب.. التي غمرها بحنانه.. واقتسم بين النفوس حبها.. الذي فاض وأباح عن مكنون نفس لم تعش لنفسها يوما.. لا تحمل ظلما للآخر.. نافذة عينيه.. ثاقبة في غير فضول.. يملؤها الحياء.. تكتشف ضعف من حولها.. لتتعاطف معه.. لم يرحمه المرض.. كما أنه لم يستعطف المرض.. بل كان يتحداه.. وكان التحدي هذه المرة صامتا.. ينم عن مكنون نفس راضية في غير ضجر.. كان الإيمان زاده الذي أخذه من زمنه وتعلمه من أيامه.. إيمان يغلفه صبر.. لم أجد له مثيلا.. وما كنت أدري أن اليتم بهذه المرارة.. ولا كنت يوما متخيلا أن فراقه يمثل كل هذه البشاعة.. كان السند.. وحينما أصر على الرحيل.. ذقت معنى الوهن.. وارتميت في أحضان عدم الاتزان.. فأكلني الحزن.. واحترق قلبي بالحرمان.. وصارت كل الأشياء عدما.. لا يفضي لشئ سوى النهم من سراب.. تطاير حولي.. فما شعرت إلا بالدموع التي تنهمر في مرارة وألم.. وما أفادته دموعي... وما أستطعت أن أحمل عنه ولو للحظة.. ألما من آلامه.. التي ظلت تصارعه في صمت.. ودون أن أحتمل.. حاولت أن أضمه لصدري.. أن يلامس قلبه قلبي.. أن أمتزج معه في رحلته الأخيرة.. كما كان يمتزج معي ..وفشلت.. حاولت التعلق به.. تمنيت ..ودعوت.. وصليت.. ألا يرحل.. وما نجحت محاولاتي.. بل باءت كلها بالفشل.. سألته:.. أتتركني ....ولمن؟ ..لم يجب.. كل ما أتذكره.. علامات الرضا التي ارتسمت على قسمات وجهه.. وكأنني أتخيله يقول: كفاني من الألم.. سألته عن حفيديه علي وزياد.. عاشقان له.. فأجابني: علمهما ما علمته لكم من القيم أسقيهما من الوقار.. ولن يكون ذلك نافعا.. إلا بالقرآن.. فعلمهما من آياته.. ولا تتركهما.. إياك أن تستبيحك الدنيا..وتستسلم لها.. أن تنسيك ما عليك..كن فيها ضيفا..وتذكر أنها عدم.. قبلته وبكي... وقبلته ثانية.. وبكيت.. وامتلأت قسمات وجهه حينها ضعفا لاستقبال ما يسمونه غيبوبة.. وانفصل عنا.. ولكننا لم ننفصل ..جلست بالساعات والأيام.. وأدعو له .. أحادثه.. ولا يرد.. استسمحه ولا يجيب.. أقبل جبينه.. وأمسح بيدي على رأسه.. صرخت فيهم: لم يردوا..لم أمتلك إلا دموعا تنهمر.. وقلبا من الحزن ينفطر.. ونفسا ملأى بالرعب تنقبض.. وجسدا من الخوف يرتعش.. أعيش وحشة لا تنقضي.. ولكنني مازلت أتمسك بالأمل.. وكل جانب من جسده يتصل بالأجهزة.. ماالذي تقوم بفعله كل هذه الأدوية .. ماجدواها .. ما هذه الكآبة ورائحة الخوف التي تسيطر على المكان وتتملكني في ذعر وليس لها أمان..ما العمل؟ قالوا لا عمل..الدعاء!! وهل أنا منتظر أن تسمحوا لي بأن أدعو له..تكلم.. قل شيئا.. اقتربت أكثر وتحدثت معه.. ورفعت صوتي.. وقلت له: لا تتكلم.. فقط ارفع يدك.. أو حتى حرك أصبعك.. أوقدمك.. ومرت عشرة أيام سوداء... لم يتحدث فيها.. كنت أنا المتحدث.. وهو الصامت.. من يعلمني إذن..ومن يغمرني بحنانه.. ولمن ألجأ حينما تشتد بي أزماتي؟.. من يعطي لقلبي الأمل؟ ممن سأستقي النبل والاخلاق؟ كيف أتعلم الحكمة من الأشياء؟ صديقي الكبير أنت.. الذي بهرني بالآراء.. صديق يحمل الأبوة والصداقة والإخاء.. غابوا بفقدك.. قم ..تكلم.. افعل شيئا.. لماذا اخترت الرحيل وحدك.. بعدما امتزجت بقلبك.. كنا معا.. لم نفترق يوما.. كيف هنت عليك ؟ إني أحبك.. لا إني أعشق ذاتك كلها... لا يكفي بكائي..ماذ اأفعل به.. امدد إلي يديك.. لتمسح دموعي.. قم وقل لي :عيب ياولد وأقول لك: كل ده ولد ياحاج.. فتقول هتفضل طول عمرك ولد.. ماذا أفعل بذكرياتي معك؟.. ماذا أجني بصورك معي.. قم وتكلم.. علام الفراق.. وكيف لي أن أراك ثانية.. أي فقد هذا الذي أحال الدنيا لعدم ..لا.. لا تغضب مني.. كيف أنت تغضب وأكون سببا.. سأصمت كما علمتني.. سأتأمل وجهك سأقبل جبينك..وأمسح وجهي بيديك.. ليتني أستطيع أن أنفذ إلى قلبك لأرحل معك.. ليتني أقوى على الفراق.. أشعر بقلبي يتحرك من مكانه.. يريد الفرار من الكون.. يريد فرارا من اكتوائه بالحزن.. لم تعد عيناي ترى سوى خيوط دموعها وضبابية حزنها .. رحمك الله .... المزيد من مقالات أيمن عثمان