جريمة شنعاء تلك التى أقدم عليها متشددون متطرفون؛ حيث فجروا ضريح العارف بالله تعالى أحمد زرّوق، وضريح الإمام عبدالسلام الأسمر -رضى الله عنهما- والمكتبة الأسمرية فى ليبيا. والجريمة محاولة لإسقاط الليبيين فى حمأة الفتن الطائفية والحروب الأهلية، عبثاً بمقدرات ذلك الوطن الغالى، وجرّاً لأهل ليبيا إلى النزاعات والصراعات التى تشغلهم عما هم فيه من إعادة بناء بلدهم وعودة الأمن المنفلت. والشيخ زرّوق، الذى انتهك المتشددون حرمته ونبشوا قبره وحاولوا إخراج جسده، قال عنه الإمام ابن العماد الحنبلى فى ترجمته فى شذرات الذهب: «قال المناوى فى طبقاته: والشيخ زرّوق عابدٌ من بحر العبر يغترف، وعالم بالولاية متصف، تحلى بعقود القناعة والعفاف، وبرع فى معرفة الفقه والتصوف والأصول والخلاف، خَطَبَتْهُ الدنيا فخاطب سواها، وعُرضت عليه المناصب فردها وأباها». قدم الشيخ مصر، وتوفى بطرابلس، وله من المؤلفات الماتعة: الجُنّة للمعتصم من البدع بالسنّة، وشرح رسالة أبى زيد القيروانى فى الفقه المالكى، وثلاثة شروح على متن القرطبية، وستة وثلاثون شرحاً على الحكم العطائية، والنصيحة الكافية لمن خصّه الله بالعافية، وقواعد التصوف على وجه يجمع بين الشريعة والحقيقة، وشرح مشهور لأسماء الله الحسنى. ومن كلام الشيخ زروق: عظِّمْ الفقهاء لأنهم حملة الشريعة، وأكرم أهل الدنيا تنتفع بهم، ولا ترفعهم على الفقراء فتسقط من عين الله، والجأ فى أمرك كلِّهِ إلى الله تجد الإجابة كأنها طوع يدك، وقل فى جوف الليل بصوت ممدود: يا غنى مَنْ للفقير سواك؟ يا عزيز مَنْ للذليل سواك؟ يا قادر مَنْ للعاجز سواك؟ يا قوى مَنْ للضعيف سواك؟ وكرر ذلك تجد العجب فى أمرك، وصلى الله على سيدنا محمد وآله كثيرا، تر العجب من نفوذ الكلمة وظهور الأمر. أقول: وربَّ مطوية صغيرة من مؤلفات الشيخ زروق، رحمه الله، أو صفحة واحدة من نصائحه ونفحاته تفوق فى فوائدها ما أنتجه التيار المتشدد طوال تاريخه، ومع ذلك نجد المراهقين المتشددين عندنا يتطاولون على الإمام الجليل ومقامه، يوم أن كان هو فى فترة شبابه تشع منه أنوار الهداية الربانية ومعارف العلوم المحمدية وحقائق التوجه للذات العلية، وكانوا هم فى فترة مراهقتهم مشغولين بحكم العادة السرية وصوت المرأة وسماع الموسيقى!! إن الجريمة ليست فى الذين هدموا الضريح فقط، بل فى المتشددين الذى حرّضوا على هدمه، زعما منهم أن هذا هو التوحيد، ولقد روى البخارى عن عبدالله بن عمر تعليقاً ووصله ابن جرير الطبرى فى «تهذيب الآثار» بسند صحيح أنه كان يراهم شرار الخلق، و«أنهُمْ انْطَلَقُوا إِلَى آيَاتٍ نَزَلَتْ فِى الْكُفارِ فَجَعَلُوهَا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ»، وفى الحديث الشريف: «يَأْتى فى آخِرِ الزمَانِ قَوْمٌ حُدَثَاءُ الأَسْنَانِ، سُفَهَاءُ الأَحْلامِ، يَقُولُونَ مِنْ خَيْرِ قَوْلِ الْبَرِيّةِ، يَمْرُقُونَ مِنْ الإِسْلامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ، لا يُجَاوِزُ إِيمَانُهُمْ حَنَاجِرَهُمْ»، وقال: «أَخْوَفُ مَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِى ثَلَاثَةٌ: رَجُلٌ قَرَأَ كِتَابَ اللهِ حَتَّى إِذَا رَأَيْتَ بَهْجَتَهُ، وَكَانَ عَلَيهِ رِدَاءُ الْإِسْلَامِ أَعَارَهُ اللهُ إِيَّاهُ، اخْتَرَطَ سَيْفَهُ، وَضَرَبَ بِهِ جَارَهُ، وَرَمَاهُ بِالشِّرْكِ»، قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ: الرَّامِى أَحَقُّ بِهَا أَمِ الْمَرْمِىُّ؟ قَالَ: «الرَّامِى». إن التحريض على هدم المقامات جريمة نكراء وفتنة كبرى، بقطع النظر عن أن ما نشاهده عند الأضرحة من أدعياء التصوف من بدع وجهالات وخرافات أمور لا يرتضيها الشرع الشريف وتنكرها السنة المطهرة، والشيخ زروق أكثر من أنكرها، والنصيحة إن لم تكن بالرفق مزينة، صارت فتنة فى الأرض وفسادا كبيرا.