يحتدم الجدل حالياً حول القرض الذى سيمنحه صندوق النقد الدولى لمصر، وهناك اتجاه قوى فى صفوف القوى السياسية لرفض هذا القرض، لدرجة أن حزب الحرية والعدالة لا يستطيع حتى الآن أن يوافق على هذا القرض صراحة رغم أن رئيسى الجمهورية والحكومة قابلا رئيسة الصندوق وطلبا زيادة القرض إلى 4٫8 مليار دولار بدلاً من 3٫6 مليار دولار. يعود رفضنا لهذا القرض إلى تجربتنا المريرة مع صندوق النقد الدولى، فقد حصلت مصر على قرض من الصندوق بموجب اتفاقية عقدت بين الطرفين عام 1991، تضمنت الاتفاقية ما أطلق عليه خطاب النوايا المقدم من الحكومة المصرية إلى الصندوق، ويتضمن سياسة الإصلاح الاقتصادى التى ستطبقها الحكومة المصرية والإجراءات التى ستتخذها لتحسن أوضاع الاقتصاد المصرى. والحقيقة أن خطاب النوايا هذا لم يكن يتضمن سياسة اقتصادية نابعة من الحكومة المصرية بل كان تنفيذا للشروط التى فرضها الصندوق لمنح مصر هذا القرض، حيث لا تقدم هذه الشروط علناً والتى تسميها الأدبيات الاقتصادية «روشتة الصندوق»، ويطلب من الحكومة أن تحول هذه الشروط إلى إجراءات وسياسات يتضمنها خطاب نوايا فيبدو الأمر وكأن الحكومة المصرية هى التى قررت طواعية تنفيذ هذه السياسات، وهو فى حقيقة الأمر أكذوبة كبرى لأن الصندوق هو الذى يفرض شروطه، ومن يتابع تصريحات رئيسة الصندوق بعد لقاء الرئيس محمد مرسى سيكتشف أن هذه التجربة المريرة ستكرر مرة أخرى لأنها صرحت بأنها اطمأنت إلى أن الحكومة المصرية جادة فى الإصلاح الاقتصادى، ويسايرها فى ذلك كبار المسئولين المصريين بالقول إن برنامج الإصلاح الاقتصادى نابع من الإرادة المصرية وليس نتيجة لأى شروط يطرحها الصندوق. نطلق على القرض الذى حصلت عليه الحكومة المصرية من الصندوق سنة 1991 التجربة المريرة لأنه كان كذلك بالفعل، فقد ترتب عليه تنفيذ شروط الصندوق وفى مقدمتها إلغاء تدخل الدولة فى تحديد أسعار السلع والخدمات وتركها لآليات السوق، فكانت النتيجة ارتفاعاً رهيباً فى الأسعار، وفى نفس الوقت اشترط الصندوق تجميد المرتبات والمعاشات بحيث تكون الزيادة النقدية فيها أقل من الزيادة الفعلية للأسعار، وتم التوسع فى بيع منشآت القطاع العام الذى تطلب تنفيذ سياسة المعاش المبكر لمئات الألوف من العمال لأن القطاع الخاص الذى اشترى هذه المنشآت يريدها خالية تقريباً من العمال، وتحولت ثروة مصر من العمالة الفنية والماهرة إلى عاطلين، وتقلصت دائرة الإنتاج الصناعى بينما نحن نحتاج عكس ذلك. وترتب على القرض أيضاً إلغاء القيود على التجارة الخارجية لفتح الباب أمام المنتجات الأجنبية لتنافس المنتجات المصرية وهى أرخص سعراً وأكثر جودة، مما أضعف قدرة السلع المصرية على المنافسة، كما انخفض سعر الجنيه المصرى أمام العملات الأجنبية، مما رفع أسعار السلع المستوردة بأكثر من الضعف تقريباً. ترتب على هذه السياسات: توسيع قاعدة الفقراء وزيادة معدلات البطالة وخصوصاً بين الشباب المتعلم، واتساع الفوارق الطبقية، وتحول الاقتصاد المصرى إلى اقتصاد خدمات بدلاً من الاقتصاد الإنتاجى، وإغلاق العديد من المصانع نتيجة المنافسة الأجنبية، كما فقد المستأجرون للأراضى الزراعية الاستقرار بإعطاء المالك الحق فى تحديد القيمة الإيجارية سنوياً وتحديد مدة الإيجار وإخضاع هذه العلاقة للعرض والطلب، وأصبح ارتفاع الأسعار ظاهرة مستمرة يكتوى بنارها الفقراء والعاملون بأجر. فهل نريد تكرار هذه التجربة المريرة أم أن المصالح العليا للشعب المصرى تتطلب اتباع سياسة التنمية المستقلة المعتمدة على النفس التى ستجنبنا هذه الشروط؟