كانت تجلس كعادتها فى منزلها فى محافظة الغربية، تستمع للأخبار فى الراديو، رن جرس الباب، فتحت، فإذا بساعى البريد، الذى يطلب منها الإمضاء لاستلام الخطاب المهم الذى حمل ختم «المؤسسة العسكرية». مسحت الأم يديها فى «مريلة المطبخ»، فتحت الخطاب بأيدٍ مرتعشة، وقرأته بصوت منخفض: «نشكرك على كلماتك الرائعة، خطابك لابنك لم يكن مجرد خطاب من أم إلى ابنها بل كان خطاب أم مصرية لكل جندى قرر أن يضحى بحياته من أجل هذه الأرض، لذا قررنا أن يقرأه كل جندى على الجبهة». لم تسمع الأم أى صوت حولها وهى تفتح خطاباً آخر، كان مرفقاً مع خطاب الإدارة العسكرية، إنه الخطاب الذى سبق وأرسلته لابنها قبل الحرب، وأوصته فيه بكلمتين: «عش حراً كريماً أو مت شهيداً». طوت الأم الخطابين ودخلت إلى ابنتها فى غرفتها وقالت لها: «أخوك نفذ الوصية». كان هذا الموقف هو الأول الذى يؤثر على الابنة لأنها أدركت وقتها أنها لن ترى أخاها مرة أخرى، قوة الأم التى استقبلت الخبر دون أن تبكى، كان عاملاً مؤثراً أيضاً فى بناء شخصيتها. هل تتلاشى أى عاطفة أمام نداء الوطن حتى لو كانت عاطفة الأمومة؟ سألت الابنة نفسها لتفهم موقف أمها التى لم تذرف دمعة واحدة على المصاب الأليم. لم تندهش الابنة كثيراً، فهى تعلم أن الوطن هو الشاغل الأول لأمها. ولكن هل تستطيع أن تتحكم فى مشاعرها مثل أمها.. هل تنتحب على شقيقها الغالى أم تصمت حباً فى الوطن.. جلست الابنة على الأرض وعادت ذاكرتها إلى سنوات مضت وتذكرت أمها وهى مرتدية الزى العسكرى للمشاركة فى الحرس الوطنى لمساندة عبدالناصر فى حربه ضد الإنجليز عام 1956.. فأدركت قيمة حب أمها للوطن. من مواقف الأم التى مرت أمامها كشريط سينما، تذكرت الابنة كيف تعلمت قيمة حب الوطن من أمها، كيف تحب الوطن أكثر مما تحب نفسها، بعد هزيمة 1967، تذكرت الابنة كيف طلبت منها أمها أن تتطوع معها للعمل فى المستشفى العسكرى.. وهنا نما عندها حب الوطن. الأم كانت كلمة السر فى حياة أبنائها، خاصة تلك الابنة التى اختارت أن تدخل كلية الحقوق، لتعرف واجباتها تجاه البلد قبل أن تعرف حقوقها على البلد. سارت حياة الابنة بمفتاح شخصية الأم حتى تقلدت أرفع المناصب التى تتمنى أن تصل لها أى امرأة، وعندما تم تكريمها كأم مثالية على مستوى مصر، قالت وسط الجموع الغفيرة كلمات أمها: «عش كريماً أو مت شهيداً». إنها تهانى الجبالى أول قاضية مصرية.