مصر فيها الآن 60 حزباً، وستزيد، والعدد ليس كبيراً إذا قِسناه على عدد المصريين، ولكن كبير جداً إذا ما قسناه على عدد المصريين المستعدين للانخراط فى العمل الحزبى. والمسألة ليست رأياً شخصياً فى ما يتعلق بالعدد الأمثل للأحزاب فى مصر. وفى كلاسيكيات العلوم السياسية، يفرق موريس ديفورجية بين أربعة أنماط من النظم الحزبية فى الدول الديمقراطية بالنظر إلى عددها وكفاءة تمثيلها. هناك أولاً نمط الحزب المسيطر، وهو الذى يكون فيه حزب واحد ممثلاً فى البرلمان بأكثر من 60 بالمائة من المقاعد، وقد كان هذا هو الوضع تاريخياً فى الهند مع سيطرة حزب المؤتمر، واليابان مع سيطرة الحزب الليبرالى. وهناك ثانياً نمط النظام ثنائى الحزبية حيث يوجد حزبان يتبادلان السيطرة على البرلمان ويتطور هذا النظام إلى نظام يطلق عليه اسم نظام الحزبين والنصف أى يوجد بالفعل حزبان كبيران لكن يوجد حزب ثالث أضعف منهما يجتمع فيه وحوله عدد من غير الراضين عن الحزبين الكبيرين ويقوم هذا الحزب الثالث بدور مهم فى حالة إخفاق أى من الحزبين الكبيرين فى الحصول على 50 بالمائة من أصوات البرلمان، حيث ينضم الحزب الثالث إلى أحد الحزبين كى يضمن الأغلبية المطلقة فى البرلمان. وهذا هو مثال حزب الليبراليين فى بريطانيا الذى تحالف مع حزب المحافظين فى الانتخابات الأخيرة ليشكلا معاً أغلبية مجلس العموم. وهناك ثالثاً نظام التعددية الحزبية المعتدل وهو الذى يوجد فيه، وفقاً ل«ديفورجية»، من ثلاثة إلى خمسة أحزاب حاضرة فى البرلمان والتى تتكامل لتشكيل تحالفين أحدهما للمعارضة والآخر للحكومة، والذى هو عليه معظم النظم البرلمانية فى أوروبا الغربية (مثل الدول الاسكندنافية). وهناك رابعاً نظام التعددية الحزبية غير المنضبط الذى تتوالد فيه الأحزاب وتتزاحم على عدد محدود من النشطاء السياسيين دونما توجد ضوابط فى حق التشكيل أو التمثيل. والعدد بذاته ليس موضع أهمية لدارسى العلوم السياسية إلا بقدر تأثيره على الأداء الحزبى ومن ثم الأداء السياسى بصفة عامة. وهو ما جعل الكثير من الدراسات تهتم بتأثير العدد وما يرتبط من تفاعلات على متغيرَى: الاستقرار والكفاءة. وهنا تأتى أهمية دراسات أرند ليبهارت التى أوضحت أن النظم الأقل استقراراً والأقل كفاءة فى إدارة شئون الدولة (مقاسة بالقدرة وزمن تعديل القوانين القائمة وتمرير قوانين جديدة ومحاسبة الحكومة) هى عادة الفئة الأخيرة من النظم. وأخشى أننا نتجه إليها مع زيادة عدد الأحزاب على نحو قد يفوق العدد الأمثل لنظامنا السياسى. وبطبيعة الحال فإن الحزب المسيطر، لكن فى بيئة فيها رأى عام قوى ومنظمات مجتمع مدنى يقظة وأجهزة إعلام مهنية، يكون عادة الأكثر استقراراً وكفاءة، ويليه مباشرة نظام الحزبين (أو الحزبين ونصف). التعددية الحزبية مطلوبة، ولكن هذه التعددية بحاجة لأن تكون منضبطة بحاجة المجتمع لهذا الكَم من الأحزاب. ومن هنا ذهب البعض إلى أن الوضع الأمثل فى النظم الانتخابية ألا يكون هناك تمثيل نسبى عبر القوائم الانتخابية، وإنما يكون هناك تمثيل فردى عبر نظام الأغلبية البسيطة لأن هذا يدفع الأحزاب الصغيرة إلى التحالف الإجبارى مع الأحزاب الأكبر منها والأقرب إليها أيديولوجياً بحيث نقترب من نظام التعددية المنفلتة إلى التعددية المعتدلة ومن التعددية المعتدلة إلى الثنائية الحزبية.. كيف؟ فى الدائرة رقم 10 فى محافظة كذا، بدلاً من أن يمثلها خمسة أشخاص وفقاً لعدد الأصوات التى حصل عليها كل حزب، تنقسم الدائرة إلى خمس دوائر أصغر، ومَن يحصل على الرقم الأعلى (حتى لو لم يصل إلى 50% +1) يكون هو الفائز بالمقعد. بهذه الطريقة تجد الأحزاب التى لم تفُز بأى مقاعد فى أى دائرة نفسها مضطرة لأن تندمج مع الكيانات الأكبر وتمارس دور المعارضة داخل هذه الأحزاب طالما أنها عاجزة عن أن تمثل بالقدر الكافى داخل البرلمان. هذا نقاش ينبغى أن يفتح من الآن حتى لا نفاجأ بأن التعدد الحزبى صار عبئاً على الوطن.