يعيشون حياة فقيرة لكنها مزينة بسعادة صنعتها القناعة والرضا بعد سنوات العشرة مع الأمواج الهائجة.. يهيمون على وجوههم بحثاً عن أرزاقهم فى بحر يتقلب ما بين الهياج والصبر.. يحمل بين طيات أمواجه الرفق تارة والغدر تارة أخرى.. لا يعتمدون على سواعدهم المفتولة مع إشراقة يومهم الجديد، قدر اعتمادهم على خالقهم الذى لم ينسهم يوماً من الأيام، رحلة محفوفة بالمخاطر فى أيام الغضب والنوات يهون من مشاقها فلكلور إسكندرانى بحناجر وخيمة تردد: «هيلا هيلا صلى ع النبى». مع طلوع الشمس، يستيقظ الريس صلاح، ذو العقد السادس من عمره، مبكراً.. يرتدى ملابس الصيد على عجل، تاركاً زوجته وأبناءه، متوجهاً إلى البحر ليلقى بشباكه اللؤلؤية، آملاً فى كرم الرزاق، يرافقه العشرات من زملائه، الموزعين على مجموعات تتكون الواحدة من 12 إلى 15 صياداً، يملأهم الأمل فى الرزق الرغد. «يلا يلا الله أكبر» تنطلق معها قوارب الصيد فى تمام الساعة السادسة صباحاً من شاطئ بحرى والمنشية وسط الإسكندرية، موزعة فى اتجاهات محددة سلفاً، دون أن تدخل مجموعة بقاربها فى الحيز المخصص لغيرها، وفى الرابعة عصراً يقف العشرات من الأهالى رجالاً ونساءً وأطفالاً وكباراً، على كورنيش المنشية أمام النصب التذكارى للجندى المجهول، فى انتظار «أرزقية البحر» وما يحملونه من أشكال وألوان من الأسماك وخير البحر، فمنهم من ينتظر لشراء الأسماك الطازجة، ومنهم من يستمتع بمشهد الصيادين وهم يجرون شباكهم المملوءة بخيرات الله. على أنغام السمسمية وأنشودة «هيلا هيلا صلى ع النبى»، تقترب قوارب الصيد من الشاطئ عائدة من رحلتها، وكلما اقتربت زاد تركيز الأهالى الواقفين على الشاطئ فى انتظار مشهد «رزق المالح»، فتتزايد الأنظار بلهفة فى انتظار خروج السمك من البحر، حتى يلمس جسد أول قارب صخور الشاطئ، ويموج المشهد بالبيع والشراء واللعب والمشاهدة لأطنان الأسماك التى تتلاعب وتتراقص داخل الشباك. «بنبدأ يومنا من الفجر علشان ناخد خير الصبحية وندعى ربنا يرزقنا بخير البحر»، عبارة تحدث بها الريس أحمد المراكبى، أحد الصيادين، مؤكداً أن «هموم المهنة» لم تعد تسمح لهم بالشعور بالفرحة التى يعيشها الأهالى أثناء خروج الشباك من المياه وفيها الخير والأسماك الحية، لافتاً إلى أن قيام هيئة الثروة السمكية باستخراج الأسماك الزريعة من البحر المالح لبيعها للمزارع السمكية الخاصة، يقلل من رزق الصيادين، خاصة مع الارتفاع المستمر فى أسعار الشباك والغزل. محمود مرعى، أصغر الصيادين المشاركين فى الرحلة، والذى لا يتعدى عمره 17 عاماً، شارك والده فى أربع منها مارس خلالها مهنة الصيد، إلا أنه فور وصول السمك إلى الشاطئ يبتهج فرحاً، وكأنها المرة الأولى التى يرى فيها هذا المشهد، الذى ترافقه أصوات المنتظرين على الكورنيش المشجعة والمهنئة بخروج السمك من البحر، ما يعضد من عزمهم وهمتهم لإخراج الرزق بشد الشبك الذى يطلقون عليه اسم «الغرافة». واعتبر «مرعى» أنه من سوء حظه التحاقه بمهنة «الصبر» فى زمن نفد فيه صبر البشر بسب وجيعتهم، مؤكداً أن كثرة المشاكل أضاعت صبر الصيادين، وعلى رأسها مشكلة استخراج تصاريح الصيد أو تجديدها، والإجراءات الروتينية المعقدة التى لا يزال يصر عليها المسئولين، مشيراً إلى معاناتهم من غدر الحكومة، وغضب البحر الذى لا يرحم توسلات البشر. وقالت مها محمود، ربة منزل، إن أهالى الإسكندرية تعودوا على انتظار ذلك المشهد قبل غروب شمس كل يوم، ليحضروا مشاهد بهجة رزق البحر، ويحظوا بسمك طازج من قلب مياهه، وأضافت السيدة الأربعينية أن أسعار الأسماك عند شرائه من شباك الصيادين مباشرة لا تختلف كثيراً عنها عند شرائه من البائعين فى السوق، لأن نسبة الوفر تكون طفيفة إلا أن الشخص يشعر بلذة البركة ورائحة اليود الممتعة فى الأسماك التى يأخذها من الشبكة إلى الطهو مباشرة. وتعليقاً على أسعار الأسماك، قال رزق عبدالباسط، أحد الصيادين، إن أسعار الأسماك متقاربة فى الأسواق وعند الصيادين لأن هامش ربحها قليل للغاية، ولا يزيد عن بضعة قروش فى الكيلو الواحد، وبناء عليه لا يمكن للصياد تخفيض سعره عند بيعه على الشاطئ.