رشا عامر - بين السماء والأرض يعيشون، يفترشون النهر ويلتحفون السماء، بيوتهم قوارب تتأرجح مثلهم فوق مياه النيل جدرانها خشب، أسقفها قطع بالية كتلك التى تحمى أجسادهم الخارجية، بينما هم من الداخل شخصيات مهترئة بفعل إهمال لم يعرفوا غيره منذ مجيئهم إلى الدنيا ولم يعرفوا له سببا حتى الآن، إنهم العاملون بمهنة صيد السمك على شاطئ نهر النيل فى مصر القديمة والوراق وإمبابة وغيرها. عددهم بالآلاف ولا يعرفون لهم حياة غير تلك الحياة البائسة التى ربما نراها نحن بسيطة، ولكن أية بساطة فى حياة كاملة فوق قارب وسط المياه! فيه نأكل ونشرب ونستحم وننام! أية حياة تلك عندما تلقى الشمس بلهيبها فى قيظ الصيف أو عندما ترعد السماء بزمهرير شتائها فى لياليه القارصة، فتكاد تخلع الأبواب الحديدية من فرط شدتها بينما هم يحتمون فقط بقطعة قماش كانت فى الماضى القريب جدا لافتة انتخابات أحد مرشحى مجلس الشعب، رفع اسمه عليها بينما تجاهل أن هناك من هم «مدفونون بالحياة». مشاكلهم تكاد تكون واحدة لأنهم ببساطة يعيشون حياة واحدة، فالقوارب هى بيوتهم والنيل هو مصدر رزقهم وصيد الأسماك هو مهنتهم وأكل عيشهم، فهل هناك بساطة أكثر من ذلك؟ الغريب أنه وبنفس مقدار هذه البساطة تكمن المشكلات، فلا النيل أصبح مصدر رزق ولا الصيد أصبح يأتى بالأسماك بل تغيرت الحال وأصبح الفقر المدقع هو السمة الرئيسية للمسألة بعد أن كان مجرد فقر بسيط فى الماضى. «جمال عبد الحميد» 30 سنة، كان أول من التقيناهم من هؤلاء الصيادين، وبعد عناء شديد وافق على الحديث وإن لم تختف نظرة السخرية من عينيه على ما وصلت إليه حال البلاد التى تدهورت، على حد تعبيره فى الفترة الأخيرة، وكيف تتقدم إذا لم يكن المسئولون عنها لا يعرفون سوى علية القوم، أما الصيادون فلا أحد يعرف عنهم شيئا. يبدأ جمال يومه مع آذان الفجر حيث يبحر بقاربه الصغير ليلقى بشباكه عسى أن يحن النهر عليه ويستجيب الله لدعائه، وبعد أن كان يصطاد يومياً كميات وفيرة من السمك خصوصاً فى فصل الشتاء هذا، أصبحت فكرة الصيد يومياً ضرباً من الخيال، فالشباك تخرج خاوية مثلها مثل البطون التى قرر لها وزير التموين ثلاثة أرغفة فقط يوميا لتملأها على حد تعبير جمال! يشترك جمال مع باقى الصيادين القابعين على شاطئ نهر النيل بالقاهرة والجيزة فى أن معظمهم أتى من المنوفية، أما مهنة الصيد فقد توارثوها أباً عن جد وعن جدة، فالزوجة تعمل أيضا بالصيد مثل زوجها فهي أم وزوجة وصيادة ماهرة تفرد الشباك وتجمع السمك وتجدف بالقارب مثلها مثله تماماً. يمتلك جمال قاربين أحدهما صغير لا يتعدى طوله نحو ثلاثة أمتار وهو يستخدم فى صيد السمك، أما القارب الآخر فهو يقارب الستة أمتار وهذا هو مسكن الأسرة، حيث يوجد الوابور وآنية الطهو والغسيل والبطاطين وبقايا حياة أبت أن تعطيهم حقهم فى معيشة آدمية، بقايا حياة يقتسمها ستة أشخاص هم جمال وزوجته وحماته وثلاث بنات بينهما رضيعة لم تكف عن البكاء، لا نعلم إن كانت تبكى حالها البائس أم تبكى الجوع أم البرد أم المرض، وحتى والدتها انشغلت عنها بحالها الأكثر بؤساً، وانهمكت فى غسل ملابس الأسرة فى النهر بالماء فقط دون صابون، نظرا لارتفاع أسعار هذا الأخير! لتخرج الملابس من بين يديها حاملة ألواناً عجيبة لا نعرف لها اسماً! بعيداً عن كل ذلك وقف جمال يشكو من قلة الأسماك فى النهر، ويعزى هذا إلى امتناع هيئة الثروة السمكية عن إلقاء الزريعة فى النيل مفضلة عليهم أصحاب المزارع السمكية من علية القوم الذين يلقبون أنفسهم بالحيتان، ولذلك فليس من المستغرب أن تصطاد الحيتان الأسماك الكبيرة بينما «البساريا» من أمثال جمال لايجدون قوت يومهم. والغريب أنهم يدفعون رسوم اشتراكهم فى النقابة أو بمعنى أدق جمعية الصيادين، وذلك مقابل الحصول على ترخيص المركب وترخيص الصيد وكارنيه الاشتراك وإلا تتم مصادرة المركب الذى هو فى الأساس ملكية خاصة للصياد لا فضل للجمعية فيه، هم فقط يدفعون ولكن لا يحصلون على شيء، فالجمعية تاخذ ولا تعطى، وبرغم أنه فى الماضى البعيد كانت الجمعية تعطيهم المراكب وشباك الصيد والغزل وتمد النهر بالزريعة كل ثلاثة أشهر، أما اليوم فهم يشترون كل شىء إضافة إلى السولار من السوق السوداء بضعف الثمن وإلا أصبح المركب مجرد لوح خشبى تتقاذفه الأمواج أما الزريعة فذهبت مع الريح. ندرة السمك على حد تعبير أحمد عبد الله، بلديات جمال تعود إلى كثرة المخلفات التى تلقى فى النهر والتى من شأنها قتل السمك فضلا عن اقتلاع البوص والحشائش من حواف النهر، والذى كان السمك يستخدمها كحضانة للبيض والفقس ونمو الصغار كما نعلم فى هذه المهنة منذ أربعين عاما. ويسخر أحمد من المسئولين عن تطهير النهر واصفا إياهم بالعمى فبدلا من اقتلاع ورد النيل الذى ينهب المياه، ذهبوا لاقتلاع البوص والحشائش التى تحتضن السمك وكأن المسألة «اقتلاع وخلاص» لمجرد سد الخانة! ويعيب أحمد على كل المسئولين عن التفاتهم إلى مهنة الصيد مع أنها المهنة الوحيدة التى لولاها ما أكل الناس فى بر مصر السمك، والذى لولا المشاكل التى يتعرضون لها لأصبح السمك موجوداً على مائدة الجميع حتى من لا يجدون قوت يومهم، ولكن لأن المسئولين على مر العصور لا يهتمون إلا بالكبار أمثالهم فهم يدوسون على رقاب الغلابة أمثال هؤلاء الصيادين لحساب الحيتان الكبيرة، والنتيجة هى ثورة جياع توشك على الانفجار إن لم يلتفت إليهم المسئولون عن الأمر. ويتساءل أحمد «هل من الطبيعى أن يأكل أولادى ثلاثة أرغفة فقط يومياً فى حين أن من أصدر هذه القرارات يأكل أضعافهم ولا يحاسبه أحد؟ هل من الطبيعى أن أرى أولادى يموتون جوعاً أمامى بينما الأغنياء يلقون بأموالهم هنا وهناك؟، ويستشهد أحمد بإحدى المقولات - التى لا يعرف من قائلها - فيقول: «عجبت لجائع لا يخرج على الناس بسيفه!» سألت كلاً من جمال وأحمد عن مصدر معلوماتهما بشأن ما يحدث فى البلاد فلا أثر للكهرباء على القوارب وبالتالى لا أثر للتليفزيون فأجابانى بأنهما يستمعان جيدا للراديو ويعرفان منه كل ما يدور حولهما، وبالتالى فهما وجميع الصيادين غير راضين عن أداء الحكومة برغم أنهما انتخبا محمد مرسى، ولكن لم يتصورا أن المسألة سرعان ما ستنهار بهذ الشكل، وهنا يفجر جمال مفاجأة بقوله: إن بعض أقاربه يندسون وسط المظاهرات المعارضة للإخوان بميدان التحرير والاتحادية لمجرد التخريب واختلاق المشاكل، وإحراق ما يمكن إحراقه وتشويه صورة المعارضة وإظهارها بمظهر المخربين، وذلك مقابل 150 جنيهاً يوميا إضافة إلى وجبات غذائية يحصلون عليها من بعض من أطلق عليهم جمال – السُّنية! وذلك باعتراف هؤلاء المخربين شخصيا نتيجة الفقر الشديد الذين يعيشون فيه. وبرغم أن مهنة الصيد هي أكبر دروس الصبر في الحياة، لأن الصياد قد يخرج للصيد ويظل لعدة ساعات وربما أكثر دون أن يرزق بسمكة واحدة فإن اليأس لم يستطع أن يعرف طريقه إليهم. فهل هذا لأنهم بالفعل يحبون هذه المهنة أم لأنهم لا يجدون لأنفسهم مأوى آخر؟ صلاح جابر، يصف مهنته بأنها أسوأ مهنة على وجه الأرض، حيث يشتكى صلاح من تدهور حاله هو وأسرته المكونة من زوجة وخمس بنات وولدين، فرغم أن الزواج بالنسبة لهم هو أبسط ما يمكن، إذ لا يشبه أهل البر فى شىء.. فلا شقة ولا أثاث ولا أجهزة كهربائية ولا شبكة ولا أى شيء من كل ذلك إلا أنه حتى مع كل هذا لا يستطيع تجهيز بناته، فحتى الطشت ومجموعة الأوانى لا يستطيع شراءها. يشتكى صلاح أيضا من أن رضيعته الصغيرة مثلا تعانى دوما من التهاب رئوى حاد بسبب تعرضها الدائم للبرودة القارصة، فمهما تمت تغطية سقف المركب إلا أن ذلك لا يستطيع الصمود أمام العواصف وهطول الأمطار الذى يحدث فجأة فى فصل الشتاء. فإذا كان سكان الشقق الذى ينامون أمام الدفايات يموتون بردا، فما حال هؤلاء من الذين ينامون فى عرض النهر بلا ساتر ولا غطاء؟ ويعيب صلاح على الدولة تجاهلها لهم والتعامل معهم على أنهم غير موجودين بالمرة، بينما تترك السارقين ينهبون الأموال ويهربون بها إلى الخارج دون ضابط أو رابط. فكل ما تستطيع الدولة فعله هو إرسال شرطة المسطحات المائية لهم لتحرير المخالفات! الغريب أن هذه المخالفات هى تلويث البيئة.. وكأن الدولة أعطتهم المساكن ووفرت لهم الطرق الصحية للعيش وهم الذين يصرون على تلويث البيئة المحيطة بهم. ويتساءل جمال «إذا كانت الدولة هى التى تركتنا نعيش وننام ونستحم فى العراء وفى مياه النهر، ولم توفر لنا البدائل، فكيف نتصرف وبأى حق تحاسبنا على ما لا ذنب لنا فيه؟ الحلم الوحيد الذى تحلم به «صابحة محمد» زوجة أحد الصيادين هو أن تنام على سرير فى غرفة على البر، وليس فى مركب على البحر، فرغم أنها عاشت حياتها منذ مولدها وحتى الآن فى هذه المركب، فإنها تحلم بشىء مختلف سواء بالنسبة لها أم لأولادها الذين لا يعرفون للمدرسة طريقاً بل إنهم لا يعرفون ما معنى مدرسة أصلا ليصبح الجهل والفقر هما السمتين الرئيسيتين والمتوارثتين فى هذه المهنة التى لم تعد تجنى ثمارها. فصابحة هى ابنة صياد وزوجة صياد إذ لا يمكن أن نجد امرأة تتحمل ما تتحمله هذه الزوجة التى تقوم بالتجديف أثناء رمى زوجها للشباك، كما تتولى إعادة غزل الشباك التى تهتكت أثناء الصيد وتساعد زوجها أحيانا فى بيع حصيلة السمك لكبار التجار فى سوق المنيب ليحصلوا منهم على مبالغ قليلة مقابل أن هؤلاء يحصلون على أضعاف مضاعفة، برغم أنهم لم يبذلوا أى جهد مقابل ذلك، ولكن الصياد هو الشخص الوحيد المهضوم حقه دائما. ومثلما اتفق الصيادون على مشاكلهم اتفقوا أيضا على وجوب عودة الأموال المنهوبة عسى أن تفك كرب المصريين، واتفقوا أيضا على استحالة انتخاب الإخوان المسلمين مرة أخرى، واتفقوا على استحالة تطهير مياه النيل ما لم يتم تطهير البلد نفسها من الفساد الممتد من السطح إلى القاع. تركنا كل هؤلاء فى حياتهم النهرية وصعدنا إلى حياتنا البرية، حيث السيارات الفارهة تمرق سريعا، دون أن تلقى حتى بنظرة لهؤلاء المهمشين الذين نسيهم الجميع فى فورة تقسيم الكعكة، والتى لم يطولوا منها شيئاً كالعادة، ولكن الخوف كل الخوف من أن يصبح هؤلاء الذين يكاد يفترسهم الجوع هم شرارة احتراق البلد المقبلة، فصحيح كما استشهدأحدهم "عجبت لجائع لا يخرج على الناس بسيفه"