الاجتهاد فى اللغة هو بذل الوسع والطاقة فى طلب الأمر. والاجتهاد عند علماء أصول الفقه هو بذل الطاقة من الفقيه لتحصيل حكم يغلب على ظنه أنه حكم الشرع من وجهة نظره. والاجتهاد هو وسيلة الإسلام لمواكبة المستجدات والأحداث دائمة التغيير والتطوير، فقد أخرج الطبرانى وأبوداود والحاكم بسند صحيح عن أبى هريرة أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها». وأخرج أحمد والطبرانى وأبوداود بسند ضعيف عن رجال من أصحاب معاذ بن جبل، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أراد أن يبعث معاذاً إلى اليمن قال: «كيف تقضى إذا عرض لك قضاء؟» قال: أقضى بكتاب الله. قال: «فإن لم تجد فى كتاب الله»؟ قال: فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: «فإن لم تجد فى سنة رسول الله»؟ قال: أجتهد رأيى ولا آلو. فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم صدره، وقال: «الحمد لله الذى وفق رسول رسول الله لما يرضى رسول الله». وإذا كان الفقهاء يشترطون فى المجتهد أن يكون أهلاً للاستنباط؛ حتى يحسن التعامل مع النصوص القرآنية والنبوية بما يحفظ قواعدها اللغوية ومقاصدها الدينية. فإن الفقهاء يوجبون على الفقيه المجتهد أن يذكر أدلته التى استند إليها فى رؤيته الفقهية ليناقشه فيها المخالفون، كما يوجبون عليه أن يمهر نتيجة اجتهاده بتوقيعه ليعرف الناس أن الرأى الذى انتهى إليه من حكم الحلال أو الحرام أو غيرهما إنما هو من رؤيته الفقهية وليس بوحى من السماء، فقد أخرج مسلم من حديث بريدة أن النبى صلى الله عليه وسلم كان يوصى أمراءه بقوله: «وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله، ولكن أنزلهم على حكمك -أى أنت- فإنك لا تدرى أتصيب حكم الله فيهم أم لا». ويترتب على نسبة الحكم الاجتهادى إلى الفقيه المجتهد وليس إلى الله عز وجل أن هذا الحكم بالنسبة لمن توصل إليه أو من اقتنع به «صواب يحتمل الخطأ»، وبالنسبة إلى غيره من المجتهدين المخالفين «خطأ يحتمل الصواب»، وأنه لا ولاية لفقيه على آخر وإنما العلم رحم بين أهله. كما أنه لا ولاية لفقيه على عامة الناس وإنما العلائق بين الفقهاء وبين عموم الناس بشأن الدين لا تخرج عن العلم والنصيحة؛ لقوله تعالى: «وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ» (النحل: 44). وأخرج مسلم عن تميم الدارى أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «الدين النصيحة.. لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم». ويبقى عوام الناس أسياداً فى استحقاقهم معرفة جميع الأقوال أو الرؤى الفقهية الصادرة عن أهل الذكر فى المسألة الواحدة ليتمكنوا من الاختيار منها بحسب قناعة قلوبهم دون تخويف؛ عملاً بما أخرجه أحمد بإسناد حسن عن وابصة بن معبد أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «استفت قلبك استفت نفسك وإن أفتاك الناس وأفتوك»، وأخرجه من حديث أبى ثعلبة الخشنى بإسناد جيد بلفظ: «وإن أفتاك المفتون». ونظراً لأن علماء الفقه والأصول يدركون تكريم الإسلام للإنسان بما يجعله سيداً فى قراره لأمر نفسه باختيار دينه، واختيار منهج أو طريقة اجتهاده فى نصوص دينه، واختيار القول الفقهى الذى يرضيه مع الله بقناعته القلبية دون وصاية أو ولاية ممن يزعم كذباً وكالته عن الله. لذلك اتجه هؤلاء الفقهاء المخلصون إلى تحصين عوام الناس من سيطرة الأوصياء الدينيين بكشف طرق الاجتهاد فى المسائل المستجدة وتبسيطها، وإظهار سر المهنة فيها وتوضيحها؛ ليتمكن كل أحد من الاستقلال فى علاقته مع الله دون التبعية العمياء التى تتطور تلقائياً إلى الشرك والعياذ بالله، كما قال تعالى: «وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ» (البقرة: 165). وكما أنكر الله على السابقين بقوله: «اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَٰهًا وَاحِدًا لَّا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ» (التوبة: 31). ولا تخرج طرق الاجتهاد فى المستجدات عن طريقين يختلفان فى الظاهر من نقطة البداية ولكنهما يلتقيان فى النهاية مع تعظيم مقاصد الإسلام وحفظ ضروراته الخمس فى الدين والنفس والعقل والعرض والمال، بما يرعى مصلحة الإنسان ويدفع الضر عنه. أما الطريق الأولى فتبدأ من اعتبار كل جديد مستحدث أمراً محرماً أو محظوراً؛ لعدم وجود دليل بمشروعيته. ولا يتوقف المجتهد عند هذا الحكم بل ينظر إلى مآله أو تتابعاته على مقاصد الإسلام وضروراته، فإن وجدها على استقامة دون مشقة أو حرج استمر على حكم الحظر وإلا فعليه أن يتحول إلى القول بالمشروعية؛ لعموم قوله تعالى: «وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ» (الأنعام: 119)، وقوله تعالى: «فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ» (البقرة: 173). وليس المقصود بالضرورة أشدها، وإنما كما يقول الفقهاء: «إن الحاجة العامة أو الخاصة تنزل منزلة الضرورة». ومن هؤلاء الفقهاء ابن نجيم فى «الأشباه والنظائر»، وإمام الحرمين الجوينى فى «البرهان»، والسيوطى فى «الأشباه والنظائر». وأما الطريق الثانية فتبدأ من اعتبار كل جديد مستحدث أمراً جائزاً أو مشروعاً؛ لعدم وجود دليل يمنعه. ولا يتوقف المجتهد عند هذا الحكم بل ينظر إلى مآله أو تتابعاته على مقاصد الإسلام أو ضروراته الخمس، فإن وجدها على استقامة دون ضياع أو فساد استمر على حكم المشروعية وإلا فعليه أن يضع من التقييد بالضوابط والشروط ما يمنع تلك المفاسد المحتملة، فإن لم تكف تلك الضوابط للحيلولة دون المفاسد لم يكن هناك بد أمام المجتهد إلا القول بالتحريم؛ عملاً بالقاعدة الفقهية: «درء المفاسد أولى من جلب المصالح»، كما ذكرها ابن نجيم والسيوطى وغيرهما. وأما سر المهنة عند الفقهاء فى المسائل المستجدة فيرجع إلى معرفة القواعد الفقهية الخمس الكبرى وتطبيقها على المستجدات، والتى يتمكن منها كل من يُعمل عقله. وهذه القواعد هى: «الأمور بمقاصدها، أو الأعمال بالنيات»، و«المشقة تجلب التيسير، أو إذا ضاق الأمر اتسع»، و«اليقين لا يزول بالشك»، و«الضرر يزال، أو لا ضرر ولا ضرار»، و«العادة -أى عادات الناس- محكمة أو معتبرة». ومقياس العدل فى التطبيق يرجع إلى قاعدة المعاملة بالمثل التى بيّنها الله تعالى فى عموم قوله سبحانه: «هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ» (الرحمن: 60)، وعموم قوله تعالى: «وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا» (الشورى: 40). وما أخرجه أحمد وابن حبان عن أنس بن مالك أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب للناس ما يحب لنفسه من الخير»، وهو فى الصحيحين بلفظ: «حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه».