يرفض الإسلام وظيفة الوكالة عن الله فى الأرض، أو الوساطة بين الله وبين خلقه، ويعد ذلك شركاً يحبط عمل التابع والمتبوع. فمن أراد إسلاماً خالصاً فلا يجعل بين قلبه وبين الله مخلوقاً ولو كان أفقه الفقهاء؛ لقوله تعالى: «وإذا سألك عبادى عنى فإنى قريب» (البقرة: 186)، وما أخرجه أحمد بإسناد حسن عن وابصة بن معبد أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال له: «استفت قلبك وإن أفتاك الناس وأفتوك». وحتى يكون العلم والفقه اللذان أمر الإسلام بتحصيلهما وبذلهما أداة لتأصيل تكريم الإنسان وتحريره من العبودية لغير الله، وليس وسيلة انتهازية لاستعباد العوام والبسطاء فقد وضع الإسلام فيهما سنتين كونيتين يكبح بهما شهوة المتألهين، وهما: (1) نفى صفة الأعلم بإطلاق عن أى مخلوق، فقال سبحانه: «وفوق كل ذى علم عليم» (يوسف: 76). فمهما بلغ علم الفقيه فإنه لا يتأهل للثقة المطلقة فى الاتباع دون العرض على القلب الذى يصدقه أو يكذبه. (2) تمكين العوام من الفهم الأعمق والفقه الأدق من علم الفقيه بمجرد الاستماع إليه؛ لما أخرجه الشيخان عن أبى بكرة أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: «فإن الشاهد عسى أن يبلغ من هو أوعى له منه». فمهما ظن الفقيه العلم فإن من يسمعه قد يكون أفقه منه. ومع وضوح طريق الإسلام فى أن فقه الدنيا يختلف عن أحكام الآخرة، بما سبق بيان بعض أوجهه، إلا أن العاشقين لمهنة الوصاية على الناس يشاغبون بزعمهم معرفة الحقيقة فى الأحكام الشرعية التى جعلها الله غيباً لا تعرف إلا يوم القيامة، ويتهمون فقه مخالفيهم بالضعف والشذوذ. وقد تصدى الفقهاء المخلصون لهذا الشرك الجاهلى المعاصر بأدلة كثيرة، وعدنا بذكر ثلاثة منها. الدليل الأول: أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) أقر صحابته الكرام على اختلافهم فى فهم النصوص؛ لتكون التعددية الفقهية سنة متبعة. ويدل لذلك: (1) صلاة بعضهم للعصر فى وقتها قبل بنى قريظة، وصلاة بعضهم لهذا العصر بعد وقته فى بنى قريظة. (2) اختلافهم فى إعادة الصلاة بالتيمم بعد ظهور الماء دون أن ينكر أحد على أحد. فقد أخرج النسائى وأبوداود بإسناد صحيح عن أبى سعيد الخدرى قال: خرج رجلان فى سفر، فحضرت الصلاة، وليس معهما ماء فتيمما وصليا، ثم وجدا الماء فى الوقت. فأعاد أحدهما الصلاة والوضوء ولم يعد الآخر.ثم أتيا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فذكرا ذلك له، فقال للذى لم يعد: «أصبت السنة وأجزأتك صلاتك»، وقال للآخر: «لك الأجر مرتين». (3) اختلافهم فى القصر والفطر فى السفر، ولا يعيب أحد على أحد. فقد أخرج الدارقطنى بإسناد حسن عن عائشة قالت: اعتمر رسول الله وأنا معه، فقصر وأتممت الصلاة، وأفطر وصمت.فلما دنوت إلى مكة قلت: بأبى أنت وأمى يا رسول الله، قصرتَ وأتممتُ، وأفطرتَ وصمتُ؟ فقال: «أحسنت يا عائشة». وأخرج مسلم عن أبى سعيد الخدرى قال: غزونا مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لست عشرة مضت من رمضان، فمنا من صام ومنا من أفطر، فلم يعب الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم. وأخرج البيهقى عن أنس قال: إنا معاشر أصحاب رسول الله كنا نسافر، فمنا الصائم ومنا المفطر، ومنا المتم ومنا المقصر. فلم يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم، ولا المقصر على المتم ولا المتم على المقصر. الدليل الثانى: أن كثيراً من السلف الصالح أمر بالتعددية الفقهية وجعلها سمة إسلامية. وهذا يستوجب عدم الإنكار على القول المخالف ووصفه بالشذوذ إلا لحكمة. وللحديث بقية. لمتابعة المقالات السابقة: فقه الدنيا وأحكام الآخرة (4) فقه الدنيا وأحكام الآخرة (3) فقه الدنيا وأحكام الآخرة (2) فقه الدنيا وأحكام الآخرة (1)