الحق فى الآخرة واحد قطعاً، فكل مسألة أو قضية لها حكم واحد ولا تحتمل حكمين؛ لسببين غير موجودين فى الدنيا. الأول: أن الحاكم فى الآخرة هو الله تعالى بنفسه صاحب الحق المطلق، الذى يعلم السر وأخفى. قال تعالى: «يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِى الصُّدُورُ وَاللَّهُ يَقْضِى بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَىْءٍ» (غافر: 19، 20). الثانى: أن الحكم فى الآخرة بالحقيقة التى ستتكاشف ولا يملك مخلوق إنكارها. قال تعالى: «وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِى أَنطَقَ كُلَّ شَىْءٍ» (فصلت: 21). أما الحق فى الدنيا فيستحيل أن يعرفه على وجه التعيين أحد من المجتهدين؛ لأنهم بشر غير معصومين، وأحكامهم تكون بغلبة الظن؛ لأنهم لا يعرفون إلا ظواهر الأمور، بل إنهم يتفاوتون فى علمها، والأكثر علماً بالظاهر يتهم الأقل منه بالجهل، والأقل علماً بالظاهر يرجم الأكثر منه بالخوض فى الغيب. وحتى المتساوون فى معرفة ظواهر الأمور فإنهم قد يتفاوتون فى الحكم عليها بحسب تنازع مبدأى الترجيح: فى المصالح بجلبها، وفى المفاسد بدرئها. وفى التكاليف بالأخذ بأيسرها، أو العمل بأحوطها. وفى جميع الأحوال فإن المجتهد لن يقف حبيس اجتهاده؛ لأنه فى تطوّر مستمر، والأوضاع حوله فى تجدُّد مع الزمن. فما كان يراه فى يومه حراماً كجراحة التجميل وزراعة الأعضاء؛ لما يعده تغييراً لأصل الخلقة: قد يراه فيما بعد حلالاً أو واجباً إذا اقتنع بأنه من التداوى والعلاج. وقد يرجع فى مرحلة ثالثة من عمره إلى ما قاله أول أمره من التحريم إذا تطوّر الطب وصار بالإمكان تحقيق العلاج بالجينيوم دون الجراحة التى ستكون فى هذا الزمن الآتى تعذيباً للجسد بغير طائل. هذا التعدُّد فى الاستنباط الفقهى عند المجتهدين فى الدنيا فى المسألة الواحدة يقابله عند غير المجتهدين من العوام التعدُّد فى الاختيار الفقهى من بين أقوال المجتهدين الذى نص عليه النبى صلى الله عليه وسلم، لوابصة بن معبد: «استفت قلبك وإن أفتاك الناس وأفتوك». كما أخرجه أحمد بإسناد حسن. وبالتعدّد الفقهى استنباطاً عند المجتهدين، واختياراً عند غيرهم من العوام يستطيع الإنسان أن يمارس عبادته لله دون وساطة أحد إلا الإخلاص الذاتى، وأن يعيش كرامته دون وصاية أحد إلا قناعته الذاتية، فى مظلة إسلامية شرعية. غير أن أعداء حرية الإنسان وخصوم كرامته يتتبّعونه بكل الحيل للسيطرة عليه وخاصةً بتخويفه من ممارسة حقه الشرعى فى الاجتهاد من النصوص إن كان فقيهاً بحسب غلبة ظنه، أو الاختيار من أقوال الفقهاء إن لم يكن فقيهاً بحسب اطمئنان قلبه، فأطلقوا سهمين قاتلين: (1) السهم الأول: فى وجوه الفقهاء المجتهدين، فيما يُعرف بقضية «وحدة الحق وعدم تعدّده فى الدنيا»؛ بهدف إيقاف مسيرة الاجتهاد والتشكيك فى اجتهاد من لا يعجب الأوصياء أعداء الحرية إلا لأنفسهم. وقد تصدّى علماء الأصول لهذا السهم المسموم بأن الحق فى الدنيا يختلف عن الحق فى الآخرة، كما سبق بيانه. (2) السهم الثانى: فى وجوه البسطاء من الناس وعامتهم فيما يُعرف «بعدم جواز العمل بالقول الشاذ أو الضعيف»؛ بهدف حرمان البسطاء من حق الاختيار الفقهى الذى منحه الإسلام للعامة دون تخويف بمثل تلك المصطلحات المصطنعة، التى اخترعها المعادون للرأى المخالف لعجزهم عن رد الحجة بالحجة، ولفرض سيطرتهم ووصايتهم على البسطاء، وكأنهم وكلاء الله فى أرضه اختصهم بمعرفة مراده الذى جعله غيباً إلا عليهم. وقد تصدى كثير من أهل العلم لهذا السهم الأكثر سُمّاً، والموجه إلى الفئة الأكثر ضعفاً بما يحتاج كشفه. وللحديث بقية.