عالم تسوده التناقضات، رجل يرتدي قفازات وآخر تبلى طبقات الجلد في يديه لتصبح أكثر خشونة وأشد قساوة، شخص يتناول تطعيمًا يقيه شر الأمراض، ورفيق دربه بالكاد يجد سريرًا في مستشفى التأمين الصحي، فمن "لم يلحق الميري" في مهنة عمال النظافة يجب ألا "يتمرمغ في ترابه"، لأن الشركات الخاصة التي تقوم تنظيف شوارع القاهرة تمتع موظفيها بمزايا قلما توفرها هيئة حكومية خاصة، وإن كانت الحي أو المحافظة، وكبيرهم شحاتة المقدس الذي يزيد دخله الشهري على 10 آلاف جنيه ينظر لهم باعتبارهم مجرد "موظفين". "مربع بنضفه كل يوم بنفس العمال والعربية"، يشرح عم سيد، مسؤول عمال النظافة بأحد أحياء القاهرة طبيعة عمل شركات النظافة الخاصة، حيث يبدأ العمل يوميًا في السابعة صباحًا، فأس وصندوق قمامة بلاستيكي و2 عمال نظافة وسائق، هي أدوات عم سيد في تنظيف المنطقة، تنسيق شامل بين قطاعات النظافة المختلفة بحيث تكون المنطقة نظيفة على مدار اليوم، يتم توزيع العمال وفق جدول مدروس ومخطط جيدًا في كل مربع قمامة؛ وكل فرد يبيت وهو يعرف مكانه صباح اليوم التالي. جنود على الأرض يكنسون الشارع ذهابًا وإيابًا طوال مدة العمل، وآخرين يصعدون على سيارة ليست كبيرة يكتفون بجمع القمامة التي تحيط بالصناديق، لتأتي مهمة السيارة ذات الآلة لرفع صندوق القمامة وتفريغه، يقول عم سيد "كل نص ساعة حد مننا شغال على الزبالة الصبح، عمال بيكنسوا ويرموا في الصندوق، وإحنا نيجي نلم الزوايد بعدها بنص ساعة تيجي المكنة تشيل كله". "ارفع ارفع الناحية دي.. يالا يا رجالة عشان نخلص"، صيحات متبادلة طوال اليوم بين العمال، السائق يساعد إخوانه "محدش هنا بيعمل باشا الشغل لازم يمشي بسرعة"، يتباهى عم سيد بروح التعاون بين رجاله، ثلاث دورات في اليوم الواحد أو أكثر على القمامة، "بعض النقط لازم نعدي عليها مرتين تلاتة عشان شغلها كتير"، يوضح عم سيد أن سلوكيات البشر أكثر ما يضايقهم أثناء جمع القمامة، فتلك الصناديق غير مؤهلة لرمي "ردش" العمارات أو مخلفات المطاعم بها، بالإضافة إلى كسر الصناديق ورمي القمامة حول الصندوق، وعندما يكٍّون الأهالي نقاط عشوائية دون الصناديق، لرمي القمامة، "بنلف حوالين نفسنا عشان نوصل لكل الزبالة اللي بتترمي". في شركات النظافة الأجنبية رجال أشداء ينحنون مرات عدة في جمع قمامة تفوح رائحتها الكريهة وتعبئ الجو، على الرغم من ذلك يحبون أعمالهم، يبتسمون طوال الوقت متبادلين النكات وأحيانًا "الألش" على بعضهم البعض، مرتباتهم تزيد عن الألف جنيه شهريًا، يرتدون قفازات وأحذية بلاستيكية لحماية أقدامهم، تتغير ملابس العمل كل ثلاثة أشهر، تنقلاتهم إلى المحافظات تتم دون دفع مبالغ مالية، "الشركة بتوفر أتوبيسات لكل المحافظات تنقل العمال لأهاليهم"، شركتهم، وهي واحدة من ثلاث شركات أجنبية تعمل في القاهرة الكبرى، توفر لهم ما يحتاجونه؛ ففي الأعياد يكون اليوم الواحد بقيمة يومي عمل، وكبار السن لا ينزلون في أماكن عمل شاقة، ويتلقون تطعيمات دورية للوقاية من الأمراض، كما توفر لهم الشركة تأمينا صحيا واجتماعيا، فضلا عن طبيب مقيم بالشركة لرعايتهم، ويؤكد عم سيد العامل في إحدى هذه الشركات الأجنبية "إحنا معندناش مشاكل". وعلى النقيض من ذلك يتحدث عم إسماعيل عبد الشهير بابتسامة خفيفة لا تبرح شفتيه رغم ما رسمه الشقاء على وجهه المسن، ثقب صغير يتوسط رقبته كان يومًا ممر إسعاف لقلبه بالأكسجين، هو أول علامة تلفت الأنظار عندما تواجه عم إسماعيل، عامل النظافة التابع إداريا لذات الحي، "الفتحة دي من عملية، أصلي عملت حادثة سودة لسة بقسط تمنها لغاية دلوقتي"، مستشفى التأمين الصحي كانت مقصده لإنجاز العملية التي أوقفته ثلاثة أشهر حالكة عن العمل، حتى استرد صحته وعاد ليعمل مرة أخرى. يقف وحده ويتنقل بين القمامة يميزه رداؤه بلونه الأزرق، الذي لا يتغير إلا كل سنة، تغيب عن عم إسماعيل روح فريق العمل التي يعيشها سيد ورجاله، "المهندس المشرف علينا يوم نشوفه و2 لأ، ومبيجيش غير الصبح بدري عشان وراه مصالح" يستيقظ قبل الشمس، في الثالثة صباحًا، فالرجل المحلاوي، يعطي لنفسه وقت كافي ليأتي يوميًا للقاهرة، "بغير ريقي الصبح بسرعة على أي حاجة وآجي هنا على 7 ونص تمانية"، يغير عم إسماعيل ملابسه في الكشك المخصص لذلك، ليبدأ رحلة العمل الشاق. تبدو يداه وكأن البحر جذر بها وتركها طبقات جلد جافة، أضنت يديه عصا طويلة يجمع بها القمامة مع "شوال" أرز كبير، يضع به ما تجود به نفس كل شخص يلقى بالقمامة غير عابئ بهذا الظهر المسكين الذي انحنى من كثرة الانكباب على الأرض، "الزبالة كتير أوي والشغل كتير على راجل زيي"، عقده السادس لا يسعفه كثيرًا في أعمال النظافة، يرغب في تسوية معاشه "جوزت بنت وفاضل بنت وولد معايا مش عارف لو سبت الشغل هعمل إيه بس أنا تعبت". حينما يسأل عم إسماعيل عن عمره فيما أفناه سيكون في سبيل راتب 500 جنيه بعد 22 عامًا من الشقاء وتنظيف شوارع متخمة بالأوساخ، تنقل في القاهرة من شرقها لغربها، "أخدتها كعب داير من رمسيس ليوسف عباس لميدان الساعة والعباسية، شفت زبالة أشكال وألوان.. وبعد ده كله مرتبي 500 جنيه"، الزيادات في المرتب لا تضاف على الأساسي وهذا شغل العجوز الشاغل، لا يكف عن التفكير في تدابير أموره، حتى بعد انتهاء مواعيد عمله ووصوله بيته مع مغيب الشمس، لتغفو عينيه على حلم حياة كريمة لا يتحقق. فتاة صغيرة تهرول حاملة بعض الفحم المشتعل في "المنقد"، بعد أن سمعت نداءه لتغيير الحجر، يتبعها ولد آخر لتنظيف الشيشة وتبديل الفحم، بشفتين رفيعتين يعلوهما شارب كثيف يرتشف كوب شاي مع شيشته، أثناء متابعته القنوات الفضائية عبر شاشة تليفزيونية حديثة من فئة الLCD، فهو ربما يكون ضيفًا على برنامج هنا أو هناك، يرفرف حوله الحمام، وتضفي زقزقة العصافير رفاهية على مجلسه، يدان نظيفتان وقدمان يزينهما حذاء مفتوح من الجلد البني لا يشعرانك بأن هذا الشخص له تعامل مع القمامة من قريب أو بعيد. إنه كبير الزبالين شحاتة المقدس، لا يرغب في أن يعيش بمنأى عن أبناء عمومة مهنته، وسط حي الزبالين بمنطقة منشأة ناصر، يقبع في منزله الريفي الذي يحب تسميته بالفيلا، سلم في شارع دون أسوار أو حديقة، ينتهي إلى باب المنزل الحديدي الذي يفضي بدوره إلى ساحة واسعة، جدرانها خضراء، لها نافذة كبيرة دون شبابيك تطل على برج حمام إلى يمينه علم مصري كبير يرفرف، وتنتشر في الساحة الخضراء أيقونات تدل على تدين صاحب المنزل، تماثيل دينية للسيد المسيح والسيدة العذراء، وسط لوحات ورقية عديدة للبابا شنودة الثالث والبابا كيرلس وغيرهما. يعيش "المقدس" بالنسبة إلى رفقائه في رغد، فهو متعلم وله من الأبناء 10 "إحنا مبنعترفش بتحديد النسل"، يقول كبير الزبالين إن أبناءه ينتشرون في الأحياء لجمع أرزاقهم، ودخله فقط يسمح له بتربيتهم، أي ما يزيد 10 آلاف جنيه شهريًا، حسبما أكد، هو متحدث بارع ولبق منذ أن كان في المدرسة كما يصف نفسه، وهو ما أهله ليمثل الزبالين في الإعلام، كما يعتبر نفسه "رجل نضيف متعلم مثقف". عن خبرة وثقة يسرد "المقدس" معلومات يحفظها عن ظهر قلب لتاريخ القمامة وبداية مهنة عامل النظافة، تعبيرات جادة على وجه الرجل الأربعيني توحي بعلم غزير لديه عن مشاكل القمامة ورجالها، وكيف أن نقابة الزبالين كانت كيان سيدخل حيز التنفيذ عدة مرات لتلقي تبرعات للارتقاء بالمهنة ومستوى الخدمة، وآخر تلك المحاولات كانت عام 2011، لكن النصاب القانوني للنقابة لم يكتمل، كما عزف رجال القمامة عن عضويتها. "أنا أعرف كل الزبالين في محافظة القاهرة والجيزة" هو فخور بأنه كبير رجال القمامة الذي يحل مشاكلهم في داره، ب"الأحكام العرفية"، فلا يمكن أن يعتدي زبال على زميله في وجود "الكبير"، حبهم له دفعهم لترشيحه لخوض انتخابات مجلس الشعب في 2010 ودفعوا له الأموال اللازمة للحملة الانتخابية، يتباهى كذلك بالألفة والمودة بين "الزبال" وأصحاب العمارات، حيث يصفها ب"عشرة عمر"، لكن الزبال على الرغم من ذلك لا يوجد له دخل شهري ثابت لأولاده، فهو يتراوح بين 1800 إلى 2200 جنيه، على حد قوله. يعمل المقدس في مجال القمامة بالوراثة، فهي مهنة والده وجده، على الرغم من ذلك لا يعترف بأن كل من يعمل في مجال التنظيف "زبال"، فمشاكل الزبالين، وفقًا له، بدأت مع قدوم الشركات الأجنبية لتنظيف القاهرة عام 2002، ومن يعمل في تلك الشركات ومن هو تابع للحي "موظف"، يتلقى راتبًا شهريًا، وليس رجل قمامة، فهو ينحاز بشدة إلى الرجل "اللي بيمشي بقُفُّة وبيعدي عالبيوت" وفقًا له، وهي المهنة التي تضررت من وجود هؤلاء التابعين للشركات الأجنبية، ويجب أن توقف الحكومة التعامل معها بإلغاء العقد الطويل الأمد أو بعدم تجديده مرة أخرى.