على كومة تراب، اتكأ محمود عبدالهادى، 70 عاماً، إلى جواره ترقد ماكينة مياه «بحارى»، شغلها «عبدالهادى» قرابة 11 ساعة متواصلة، بمعاونة صديق له. ينظر «عبدالهادى» لفدان الأرض الزراعية الذى تتسلل إليه مياه الرى قبل أن يقول، «أنا آخر مرة رويت فيها الأرض من ميّه الترعة كان من كام سنة تقريباً، علشان كده اشتركت مع جيرانى ودقينا ماكينة نسقى بيها أرضنا». ينتمى «محمود» إلى قرية حنون، التابعة لمركز قويسنا بمحافظة المنوفية، ويضيف: «منذ ما يقرب من 4 سنوات قامت هيئة الرى بحفر وتعميق ترعة حنون الرئيسية، لدرجة أنها انخفضت كثيراً عن الترع الفرعية التى تأخذ منها المياه، ما تسبب فى انعدام وصول المياه إلى تلك الترع الفرعية، خاصة مع انخفاض كميّة المياه التى تضخ فى الترعة الرئيسية، الأمر الذى تسبب فى تهديد مئات الأفدنة التى تبتعد عن الترعة الرئيسية بالجفاف، وانخفاض كميات المحاصيل التى تنتجها، ولجأنا فى أحيان كثيرة إلى زراعة أرضنا مرتين فقط كل عام». يتفق الحاج سمير مع صديقه فيقول: «أزمة مياه الرى لم تحل ب«دق» طلمبة مياه بحارى، لعدة أسباب أهمها فقدان المياه التى أصبحنا نعتمد عليها فى الرى للعديد من العناصر التى تحتاجها التربة الزراعية، بخلاف عدم إشباعها للأرض، وهو ما يجعلنا نعيد عملية الرى فى فترات زمنية قصيرة، بالإضافة للوقت الطويل الذى تستغرقه الماكينة فى عملية الرى». وتساءل الرجل الستينى: «يعنى تبقى الترعة على راس أرضنا ومش عارفين نرويها، علشان الحكومة مش قادرة تبعت كراكة تفحت المصرف وتركب ماسورة جديدة طولها أقل من عشرة متر؟». أراضٍ لا تزال خضراء، وإن انطفأت لمعة المحاصيل فى بطونها، مزارعون لم يجدوا بديلاً عن بيع «بهيمة» أو أكثر، إن وجدت، لدفع حصتهم فى تركيب ماكينة مياه تعفهم عن التذلل لهيئات الرى التى صدّرت لهم شعار «ويبقى الوضع كما هو عليه لحين إشعار آخر». يقول أحمد منصور، أحد أبناء قرية ميت يزيد، التابعة لمركز منيا القمح بمحافظة الشرقية، إن أزمة مياه الرى تخطت كافة الحدود المسموح بها، وأصبحت عبئاً ثقيلاً على المزارعين الذين لا يملكون شيئاً يصنعونه، وبدلاً من أن توفر وزارة الرى المياه التى تعتبر الحد الأدنى لبدء عملية الزراعة، حفرت بعض الهيئات التابعة لها الترع الرئيسية فقط، وتركت الترع الفرعية التى تسقى المساحة الأكبر من الأراضى. ويضيف: «ندفع 45 جنيهاً فى إيجار الساعة الواحدة للرى بالماكينة «البحارى»، والفدان الواحد يحتاج ما بين 4 إلى 5 ساعات، بما يعنى أنه يلزم على الفلاح توفير مبلغ 200 جنيه أسبوعياً لرى محصوله، بخلاف الكيماوى والحرث وعلف البهايم وخلافه، و«فى الآخر الواحد مننا يطلعله شوية برسيم ما يساويش تمن رية واحدة من اللى دفعهم». ماكينة صغيرة لرفع المياه، صفراء اللون، شغلها أسامة مناع، أحد أبناء قرية أم الزين، التابعة لمركز الزقازيق، على «مسقى» الشيخ سيد، المارة من أمام ال20 قيراطاً التى يمتلكها، لكى «تشفط» المياه القليلة الموجودة فى أرضية الترعة، يقول: «زرعت الأرض بمحصول البرسيم تفادياً لأزمة مياه الرى التى ضربت المنطقة منذ عدة شهور، لأنه من المحاصيل التى تتحمل العطش، ولو مقدرناش نرويه نأكله للبهايم وخلاص، بخلاف ابتعاد أقرب ماكينة مياه عنى عدة كيلو مترات». يضيف الشاب الثلاثينى، الذى يعول أسرة مكونة من 4 أطفال وزوجته: «منذ عدة شهور، جمع أحد المزارعين مبالغ مالية منا، وأزلنا القش والزبالة التى تسد الترعة لاستقبال كميّة أوفر من المياه، ولكن ذلك لم يحدث بسبب عدم نزول المياه فى ترعة أم الزين الرئيسية منذ ما يزيد على الشهرين، ما جعل محاولتنا تبوء بالفشل». ترع رئيسية تمتلئ إلى منتصفها بمياه الرى، توجد الأرض الزراعية على جانب واحد منها فقط، وأخرى جفت أرضيتها فتشابهت وأرضية آلاف الأفدنة التى تلتف حولها من الجانبين، شكاوى عديدة مل المزارعون من تكرارها على المسئولين فى محافظة الغربية لعدم الاستجابة لها، حسبما قال المزارعون، ومحاولات يائسة سلكها بعضهم لتوصيل المياه إلى أراضيهم ولكن دون فائدة. «الميّه موجودة فى الترع الرئيسية اللى ماعليهاش ضغط، أما النقطة اللى بتوصل فى الترع بتاعتنا بتلاقى بدل الموتور عشرة فى انتظارها»، حسب أحمد عمران، أحد أبناء قرية محلة مرحوم، التابعة لمركز طنطا بمحافظة الغربية، ويضيف: «ورد النيل من أهم الأسباب التى تقف وراء نقص مياه الرى فى الترع، بخلاف ضيق مساحتها وامتلائها بالقش الذى يعرقل حركة المياه بداخلها، وتقدمنا بشكاوى عديدة للجمعية الزراعية والمجلس المحلى من أجل إغاثتنا بكراكات توسع الترع وتنظفها، فالمسئولون حبوا يستجيبوا لنا بطريقتهم فنزلوا الكراكات تفحت فى الترع الكبيرة الرئيسية اللى هى أصلا مفيهاش مشاكل، والميّه فيها ليل ونهار». يتابع الرجل الخمسينى: «غالبية المزارعين هنا يزرعون أراضيهم خضراوات، لأنها تعينهم على تدبير شئون حياتهم، حيث يبيعونها فى الأسواق لأن غالبيتهم لا يوجد له مصدر دخل، ونقص المياه أجبرهم على تحويل زراعتهم إلى محاصيل موسمية لا تباع ولا تشترى مثل البرسيم». «رحنا لمدير الجمعية الزراعية نقوله عندنا مشاكل فى ميّه الرى والأرض نشفت وبهايمنا بتموت، قال لنا: والله أنا عندى 20 قيراط ما نزلتهم نقطة ميّه من شهر ونص»، لذلك قرر أحمد أبوالسعود، أحد مزارعى قرية منشأة سليمان، التابعة لمركز كفر الزيات بالغربية، بيع قيراطين من الفدان ونصف التى يمتلكها لجاره لتركيب ماكينة مياه خاصة بأرضه، تكلفت 14 ألف جنيه، إضافة إلى تغريمه حصصاً إضافية من الكيماوى ليعيد إلى الأرض خصوبتها مرة أخرى».