مع الأيام باتت تُرعِبُني فكرة أن لكل شيء نهاية، تُخيفُني كثيراً فكرة ربط الأشياء بالأزمان وتَحجيمها في إطار البدايات والنهايات، وكأننا مع الوقت نغدو عبيداً للأزمان، أتعلم؟! ذلك الشعور بالدونية حيال الوقت، وكأن شرايين قلبك التفت حول عقارب الساعة، مهما حاولت الاحتيال لا حيلة لديك، كلما تقدم بك الوقت كلما كادت أن تُمَزَق شرايينك، حتى لكأنها سَترُدك قتيلاً يوماً ما.. ربما أوهامنا في الصغر عن أبدية الأشياء هي من دفعت بنا إلى كم هائل من الصدمات، واحدة تلو الأخرى، مع كل فاجعة ما، مع كل خسارة أو فقد لأشياء ظنناها لنا كلياً، مع كل مَن أٌقتُلِعوا منا، وبقي طيفهم داخلنا، مع كل رحيل لهم ليس بالضرورة اختفاء من حياتنا، مع كل لحظة وداع بدت طاغية على عمر من الحضور، مع كل راية تسليم نرفعها في وجه الحياة، معلنين انهزامنا المروع أمام جسارتها المتناهية، مع كل ابتسامة كاذبة وأنت تلوح لأحدهم وتعي جيداً أنه أوان الرحيل، مع كل كلمة "إلى اللقاء" كنا ندرك تماماً أنه الأجدر بنا لغوياً أن نلفظها "وداعاً"، مع كل دمعة صادقة انسابت من بين ابتساماتنا الواهية حزناً على سعادة نعرف أنها ذاهبة مهما خدعتنا بمظهرها الذي يبدو أبدياً أكثر من غيره، مع كل كلمة خبأناها لأوانها ولم يأتِ أوانها، أو ربما كان آنذاك أوانها ولم ننتبه قط، مع كل صمت لفرط خبثه ظنناه لا مبالاة منهم، ولم نعلم كم حمل في طياته الكثير، حتى مع الوقت اعتادوه واعتدناه معهم لا مبالاة، مع كل تمتمة خرجت بلا شيء، نود معها لو أننا أفصحنا عن أحاديث من جلّ صدقها وعمقها لا نظنها تُروي بالحديث، مع كل لحظة تراجُع عن مكالمة هممنا بإجرائها، ومع كل حجة شرعنا أن نفتعلها للسؤال عنهم ثم تراجعنا في اللحظة الأخيرة لكي لا نفقد ما تبقى لنا مما ظنناه جهلاً يُدعى بالكرامة، مع كل بداية انتظرناها منهم، ومع علمهم بانتظارنا، ومع عدم قدومهم رغم رغبتهم الملحّة في القدوم، مع كل عدم أجهشنا بالبكاء دون سبب، مع كل ذكرى تأبى وتجاهد النسيان، مع كل حماقة ارتكبناها في حق البعض مدركين تماماً لما نفعل أحياناً وأحياناً أخرى لا، ظناً منا أن يوماً ما فيما بعد سنعتذر، حين يسنح لنا الوقت سنصحح حماقاتنا، فلا داعي للقلق، معنا المزيد من الوقت لفعل ما لم نجرأ على فعله اليوم، ومعنا الأكثر للبدء من جديد، والأكثر والأكثر لتصحيح ما أفسده الدهر لنا، أو بالأحرى ما أفسدناه نحن لأنفسنا، وما الدهر إلا بريٌ منا براءة الذئب من دم ابن يعقوب، لا يهم كثيراً، ما يفوقه أهمية أننا نستطيع إرجاع الزمن للوراء قليلاً، لتلافي بعض الأخطاء، أو ربما لتغيير بعض المسارات والاتجاهات، لدينا المزيد من الوقت للمزيد من الأخطاء والحماقات، ومن ثم تصحيهها، هراء!!! ثمة حقيقة لا نبلغها إلا في عز خسارتنا، حينما نبلغ عمراً طاعناً في الخيبات، أنه لا عودة من طريق سلكناه يوماً أو فُرض علينا المضي قدماً به، لا عودة لنا بالزمن، ولا توقف له بنا، ما لم نفعله اليوم لن نفعله غداً بكل الأحوال، لأن ما معنا اليوم لا ندري بأي أرض غداً سيكون. ليتنا نتعلم أن نتخلي عن تلك المعتقدات الوهمية، فوحده سبحانه الباقي على الدوام وعداه كلنا راحلون، متى لنا أن نتقبل فكرة نهاية الأشياء، ونهيئ أنفسنا لها. وحينما تزيح السعادة بوجهها عنا ليتنا لا نلم الأيام، فنحن حقيقة من ينأى جانباً عنها لا هي، نبدل سعادتنا حزناً، ونمضي العمر رثاءً لأيامنا ونحن نحصي ونعدد ما مضى منها، ونخشى الباقي إذ يرحل. متى لنا أن نتقن فن الاستمتاع بالحياة، وبلحظات السعادة بها مهما كانت قليلة، وفعل ما يستوجب فعله اليوم لا غداً، ولنتوقف قليلاً عن ولعنا الدائم بفكرة الخلود فلا وجود لها في واقعنا.