هي مفاجأة بكل المقاييس عندما تعلنك الأيام.. أنك صرت قاب قوسين من رحم الستين.. سن التقاعد هكذا تبلغك الدولة رسميا أنك قد وصلت إلي نهاية الرحلة!.. رحلة حياتك أو عملك الوظيفي والمهني.. ياه.. تتعجب كيف فرت منا الأيام وكيف عشناها.. ومن أين أتتنا القوة علي تحمل تفاصيلها.. أيامها ولياليها.. وتفاصيلها الصغيرة قبل الكبيرة.. معايشتنا لإيقاعها اليومي.. برتابته ومفاجآته. إحساسنا أن الأيام مازالت ممتدة أمامنا.. نشكلها كما نريد.. نختار معاركها.. وننحني للريح أوقاتا كثيرة هكذا عملتنا الحكمة التي تأتي مع التجارب والتقدم في العمر. أما الساذج فهو الذي يقف عند سن معينة ولا يغير أولوياته مع سنوات النضج وتقديم أو تأخير اختيارات العقل الذي يحمينا أحيانا. أو يلقينا في حياة باردة لابهجة فيها أو مغامرة أو ينحني دائما لشطحات القلب والرغبة.. فيحصد من السعادة بقدر ما يحصد من طعنات وجروح.. يا إلهي كيف مضت تلك السنون. وأين منها من بداية العمر والمجهول المنتظر في حنايا الزمن يخبئ لنا.. من صندوق الدنيا الكثير.. ولكن من يفهم ومن يختار.. ومن يفضل أن يعيش آمنا علي سيناريو كتبه الآخرون له. فيأمن ولكنه لايفرح ولاتؤانسه الدهشة بحلاوتها. كلنا أو بعضنا يصل إلي تلك المحطة.. فائزا أو خاسرا يلفه الرضا بشرنقة حريرية.. أو يصاحبه الندم علي فرصه الضائعة. ويتمني أو يتخيل لو منحته الدنيا.. فرصة ثانية لربما.. عاشها بشكل مختلف.. ولكن تلك هي الأمنية المستحيلة.. إذن لنستفد بما بقي لنا من العمر .. حتي لو كانت لحظة.. فإنها تستحق أن تعاش بدقائقها وحتي ثوانيها فالله سبحانه وتعالي قد أوصلنا إلي تلك المحطة العمرية.. أكيد لسبب ما وحكمة يعرفها هو وحده ولأن في داخلنا كلنا قبساً من نوره. فأكيد بنا بعض من حكمته.. فلنفهم المغزي من وصولنا لهذا العمر. أكيد لم يكن الغرض.. من إعطائنا فرصة الحياة.. لوصولنا لسن الستين وربما بعض السنوات بعده.. سبب ما.. فنتوقف ونتساءل هل نحن كمالة عدد.. وما هي حياتنا والغرض منها.. وهل لوجودنا معني... ربما كان الآخرون محتاجين لنا في سنوات الرحيل أو ربما هي فرصة لإعادة حسابنا. هل واجهت نفسك يوما بكتابة قائمة طويلة.. بأفضل ما فعلته في حياتك وأسوأ أفعالك جرب .. وحاول.. ربما ستصدم. لأنك تصورت أنك مررت علي الدنيا بلا كبائر وتفاجأ أنك لست الملاك الذي صورته لك نفسك ربما .. تفاجأ أن الآخرين يرون فيك هذا الملاك من وجهة نظرهم الذي تنكره أنت علي نفسك ربما تود أن تشقلب حياتك رأسا علي عقب.. حاول فربما هي فرصتك الأخيرة.. وضحكتك ودهشتك وثورتك علي نفسك. أن تستعيد بعضا.. من فرصك الضائعة فأكيد هناك حكمة لوجودك هنا في هذه اللحظة. من عمرك القصير الطويل!! ربما أكثر مايخشاه من وصل إلي سن الستين إحساسه أنه ضيف علي الحياة والناس.. وربما حتي علي أبنائه وعائلته. رأيتها علي مدي عمري.. وقلت لنفسي: لن أصبح مثلهم أبدا عبئا عليهم أو علي الحياة نفسها. أيامي لن تهدر .. ليالينا لن تضيع هباء.. مادام العقل سليما والقلب مليئا بالرحمة والرغبة في الحياة. فأنا لست رقما زائدا.. أو إنسانا.. زيادة علي الوزن المطلوب!! كنت أراهم يخشون شيئا واحدا.. أن يحتاجوا للآخرين وهم عاشوا أعزاء كرماء بشموخ وكبرياء.. من يعطي الحياة وهي تحتاجه.. فجأة يخذله جسده. وربما وهو في قمة عنفوان العطاء والعمل.. يتعجب ويبتسم خجلا. هو حصل إيه هو أنا باكبر وأشيخ ولا إيه؟ ثم تبدأ المخاوف تطارده.. وتفزعه الوحدة من فقدان رفيق العمر.. وتجده يتساءل أو يدعو إلي الله ألا يكون الطرف الذي سوف يفتقد الآخر.. فالمحظوظ هو الذي يرحل وحبيبه يودعه ويبكيه وفي نفس الوقت. ورفيق أيامك .. تخشي عليه من العذاب والوحدة من بعدك ذلك هو رعب المحبين في نهاية الرحلة.. وبعد خوف ورعب .. نستسلم إلي إرادة الله.. ونطرد الفكرة من قلوبنا ونعيش اللحظة .. باللحظة.. فربما كانت هي الأخيرة.. فنعب منها .. حتي الامتلاء والثمالة فالحياة التي استهنا بها وبعطاياها. نعرف قيمتها .. بعدما يقترب الرحيل. يقولون إن متوسط عمر الإنسان المصري 55 عاما.. إذن من تعدي هذا العمر.. هو في ضيافة الأرض والأيام والأحباب فكن لطيفا.. حساسا معطاءً بقدر حقوق الضيف.. فاليوم الذي يذهب لايعطيك فرصة أخري بديلة.. لهذا لانترك يوما يفرمنا بدون أن نعيشه بحق!! لذلك عندما تشعر أنك في حالة وداع.. لكل شيء في الحياة فإنك تتعلم فورا قيمته.. فتحسن معاشرته وتحترمه.. فستقدر وتثمن كل لحظة تعيشها.. هي ليست لحظات حزينة بل بالعكس.. هي لحظات شجن وتعاطف وحب كبير يفاجئك تجاه كل شيء ممثل في الحياة. مهما كان بسيطا أو مر عليك مرور الكرام ولم تلتفت إليه. علي أنه أمر عادي كالحياة والتنفس ولكن عندما تعرف وتتأكد أنك قاب قوسين من وداعه!! تلتهمه وتذيبه في شرايينك.. ضحكة صغيرة.. تذكرك براءته.. بحلاوة الدنيا منظر رباني يذكرك من علمك الفن والجمال. فكرة مبتكرة.. جملة بليغة مؤثرة.. أغنية تذكرك بقدرة الإنسان علي ابتكار ألف طريقة وطريقة ليعبر بها عن وجوده.. موجة بحر.. تعيد لك الإحساس بالتجدد الذي هو هبة الحياة ومعناها. وأشياء وأشياء وأشياء. منها كانت حياتك وحياتي.. فاعرف قيمتها وعشها .. فمازلت بها جنينا.. فتمتع!!