أمى رحمها الله كانت امرأة ضريرة.. فقدت بصرها وعاشت آخر الخمسة عشر عاماً الأخيرة من عمرها لا ترى.. ومع ذلك كانت سيدة جميلة.. صبورة.. وحنونة.. لا تبغى من الحياة شيئاً سوى أن يمنحها الخالق البصر حتى تستطيع أن ترى وجهى أنا وشقيقتى مرة أخرى. على مائدة سفرتها جلست أمس أكتب هذا المقال الذى تناول فى البداية اتجاهاً وفكراً آخر.. لكنه ما لبث أن انعطف القلم نحو مسار آخر مستسلماً لمشاعر العقل والقلب.. وذكريات من سنوات طويلة مضت.. لكنها ما زالت محفورة على هذه المائدة التى شهدت كثيراً وكثيراً من أحداث عائلتى الصغيرة.. الحلوة والمرة.. التى أعتقد أن كل واحد منا يحمل مثلها.. وإن اختلفت الظروف والأمكنة والأزمنة.. لذا اسمحوا لى أن أشارككم ما انساب القلم به ليكتبه. على مائدة السفرة العتيقة بعلامات الزمن والذكريات.. رقدت كعكة عيد الميلاد تنتظر بصبر حكيم قدوم صاحبتها لتطفئ خمساً وثمانين شمعة هى عمر ستنا العجوز.. التى أصرت على الوقوف بكل هذا الزهو والكبرياء أمام كعكتها تطفئ شمعة شمعة.. وكأنها تحتفى بكل عام على حدة من عمرها الطويل. جلست أمى الجميلة تنتظر من الأحفاد والأبناء من يتسابق ليقدم لها قطعة من كعكتها المفضّلة، وهى تتحسس برفق خدوشاً تركت بصماتها على مائدة سفرتها العتيقة.. ولتفتح الباب لرحلة طويلة من الذكريات. فهنا علامة اللبن الساخن الذى سكبته أنا بإهمال.. وهنا عندما ذابت الشمعة فى ليلة حب دافئة فى أثناء عشاء على ضوء الشموع.. وفى هذا الركن سهرت شقيقتى ليالى كثيرة من أجل شهادة نجاح.. وهنا نبهت هى ألف مرة بعدم وضع الساخن على الخشب مباشرة!! على المائدة ضحكت.. وعلى المائدة تسامرت مع الأصدقاء وسط رائحة الأكل الشهى الذى كانت تتفاخر بطهيه.. وعلى المائدة فرحت بنسب البنات.. وعلى هذه المائدة أيضاً بكت وحدتها فى لقمة عيش كان يشاركها فيها الزوج الذى رحل من «زمان». شقاوة حفر القلم الرصاص ما زالت حروفه محفورة.. وحضن عودة الأبناء من المدرسة للغداء ما زال دافئاً.. و«كل كويس.. واقعد كويس يا ولد»، ما زال أمراً منطقياً ومسموعاً. ودعوات الشكر على نعمة الله ما زالت نغماً مكرراً.. وهرولة الإعداد لزيارات الضيوف المفاجئة تفعم قلبها الضعيف بالحماس.. لتفيق وتسمع من يناديها «بتفكرى فى إيه يا أمى؟؟»، فتعود لواقعها وتأكل قطعة من كعكتها المفضلة.. وبرفق تتحسس مكاناً على سطح المائدة يخلو من العلامات لترقد طبقها فوقه.. ثم تبتسم ابتسامة الحكماء الذين يعقلون سحر الماضى وجماله.. لكنهم أيضاً يعلمون أن العمر ما بقى به الكثير.. وأن هذه الجلسة التى ربما لن تشهدها هى مرة أخرى، لا يعوضها مال أو جاه!!! وهكذا رحلت بالفعل أمى وتركت لى الذكريات التى بقيت محفورة على مائدتها.. لا أتحسسها مثلها ولكنى أراها وأسمعها.. يبقى أن أكون حكيمة مثلها حتى تترك مائدتى يوماً حروفاً وعلامات.. يذكرها لى الأبناء والأحفاد.. تحمل هى الأخرى سحر الماضى وجماله. تحية لك يا أمى.. تحية لكل الأمهات الفاضلات اللائى رحلن عن حياتنا.