استعدادات مكثفة بجامعة سوهاج لبدء امتحانات الفصل الدراسي الثاني    حجازي: تعزيز آليات التعاون في الخدمات التعليمية المقدمة بمدارس (IPS) خلال الفترة المقبلة    «الخشت»: أحمد فتحي سرور ترك رصيدا علميا يبقى مرجعا ومرجعية للقانونيين    جامعة بنها تفوز بتمويل 13 مشروعا لتخرج الطلاب    أسعار الخضروات اليوم الثلاثاء 21-5-2024 في قنا    وزير النقل يبحث مستجدات تسيير خط «رورو» للحاصلات بين مصر وإيطاليا    أسعار اللحوم اليوم الثلاثاء 21 مايو 2024 في أسواق الأقصر    صعود جماعي لمؤشرات البورصة في بداية تعاملات الثلاثاء    أسعار الحديد اليوم الثلاثاء 21-5-2024 في أسواق محافظة قنا    محافظ أسوان: توريد 225 ألفًا و427 طنًا من القمح حتى الآن    وزير الإسكان يصل بني سويف الجديدة بمستهل جولته التفقدية بعدد من مدن الصعيد    الجثامين بدت متفحمة.. شاهد لحظة العثور على طائرة الرئيس الإيراني    روسيا تفشل في إصدار قرار أممي لوقف سباق التسلح في الفضاء    الأهلي يواصل استعداده لمواجهة الترجي بنهائي دوري أبطال أفريقيا    النصر السعودي يضغط لحسم صفقة صديق رونالدو    بالفيديو.. الأرصاد: طقس شديد الحرارة نهارًا على أغلب الأنحاء    تداول ورقة مزعومة لامتحان الهندسة ب«إعدادية القليوبية»    طلب تحريات حول انتحار فتاة سودانية صماء بعين شمس    تفاصيل الحالة المرورية في شوارع وميادين القاهرة الكبرى اليوم (فيديو)    تاريخ المسرح والسينما ضمن ورش أهل مصر لأطفال المحافظات الحدودية بالإسكندرية    «القومي للمرأة» يوضح حق المرأة في «الكد والسعاية»: تعويض عادل وتقدير شرعي    "صحة مطروح" تدفع بقافلة طبية مجانية لمنطقة أبو غليلة    خبيرة تغذية توجه نصائح للتعامل مع الطقس الحار الذي تشهده البلاد (فيديو)    مبعوث أممي يدعو إلى استئناف المحادثات بين إسرائيل وحماس    أوكرانيا: ارتفاع عدد قتلى وجرحى الجيش الروسي إلى 49570 جنديًا منذ بداية الحرب    لجان البرلمان تواصل مناقشة مشروع الموازنة.. التموين والطيران والهجرة وهيئة سلامة الغذاء الأبرز    وزير الصحة يوجه بسرعة الانتهاء من تطبيق الميكنة بكافة المنشآت الطبية التابعة للوزارة    رقم تاريخي لعدد أهداف موسم 2023/24 بالدوري الإنجليزي    موعد عرض مسلسل دواعي السفر الحلقة 3    الحالة الثالثة.. التخوف يسيطر على الزمالك من إصابة لاعبه بالصليبي    داعية إسلامي: الحقد والحسد أمراض حذرنا منها الإسلام    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الثلاثاء 21-5-2024    حسم اللقب أم اللجوء للمواجهة الثالثة.. موعد قمة الأهلي والزمالك في نهائي دوري اليد    بشير التابعي: معين الشعباني لم يكن يتوقع الهجوم الكاسح للزمالك على نهضة بركان    جهات لا ينطبق عليها قانون المنشآت الصحية الجديد، تعرف عليها    الجنايات تنظر محاكمة 12 متهما برشوة وزارة الري    اليوم.. «خارجية النواب» تناقش موازنة وزارة الهجرة للعام المالي 2024-2025    رغم انتهاء ولايته رسميًا.. الأمم المتحدة: زيلينسكي سيظل الرئيس الشرعي لأوكرانيا    قبل طرحه في السينمات.. أبطال وقصة «بنقدر ظروفك» بطولة أحمد الفيشاوي    ضياء السيد: مواجهة الأهلي والترجي صعبة.. وتجديد عقد معلول "موقف معتاد"    مندوب فلسطين أمام مجلس الأمن: إسرائيل تمنع إيصال المساعدات إلى غزة لتجويع القطاع    مندوب مصر بالأمم المتحدة لأعضاء مجلس الأمن: أوقفوا الحرب في غزة    احذروا الإجهاد الحراري.. الصحة يقدم إرشادات مهمة للتعامل مع الموجة الحارة    الطيران المسيّر الإسرائيلي يستهدف دراجة نارية في قضاء صور جنوب لبنان    «في حاجة مش صح».. يوسف الحسيني يعلق على تنبؤات ليلى عبداللطيف (فيديو)    منافسة أوبن أيه آي وجوجل في مجال الذكاء الاصطناعي    «سلومة» يعقد اجتماعًا مع مسئولي الملاعب لسرعة الانتهاء من أعمال الصيانة    الأنبا إرميا يرد على «تكوين»: نرفض إنكار السنة المشرفة    إصابة شخصين في حريق شب بمزرعة بالفيوم    ميدو: غيرت مستقبل حسام غالي من آرسنال ل توتنهام    دعاء في جوف الليل: اللهم ابسط علينا من بركتك ورحمتك وجميل رزقك    موعد عيد الأضحى 2024 في مصر ورسائل قصيرة للتهنئة عند قدومه    حدث بالفن| حادث عباس أبوالحسن وحالة جلال الزكي وأزمة نانسي عجرم    «زي النهارده».. وفاة الشاعر أمل دنقل 21 مايو 1983    «الداخلية»: ضبط متهم بإدارة كيان تعليمي وهمي بقصد النصب على المواطنين في الإسكندرية    حظك اليوم برج الميزان الثلاثاء 21-5-2024 على الصعيدين المهني والعاطفي    بدون فرن.. طريقة تحضير كيكة الطاسة    «دار الإفتاء» توضح ما يقال من الذكر والدعاء في شدة الحرّ    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قصة قصيرة: وجوه في قلب العتمة
نشر في الأهرام المسائي يوم 21 - 03 - 2013

أدار عبدالوهاب رأسه لما سمع همسا في حجرته التفت فرأي وجهها نادي في الظلمات: سعدية أعطته نظرة ودود دون كلمة اتكأ علي مرفقه الأيسر النحيل, وقعد في سريره هبطت الملاءة الوردية القديمة من أعلي صدره المضطرب إلي خصره الضامر
فرك عينيه العسليتين الغائرتين ربما راح النظر كما راحت ذكريات كثيرة وظلت أشياء قليلة من الطفولة والشباب‏!‏ قال هذا لنفسه حين حدق في الزاوية الأخري تأكد من وجودها ارتج في مكانه انزلق من فوق السرير حتي ثبتت قدماه المرتعشتان بأرض الحجرة اتجه إلي الباب الموارب وضع اصابعه علي مفتاح النور وضغطه لأسفل نظر للخلف في الركن الذي ظهرت فيه سعدية منذ قليل رأي الكليم‏,‏ وعدة الشاي‏,‏ والبوتاجاز الصغير‏,‏ والجوزة‏,‏ وصندوق الفحم كما تركها منذ قليل تحت نور لمبة النيون الأبيض‏,‏ ولا شيء آخر‏.‏
هل رأي زوجته الراحلة سعدية بالفعل في قلب الظلام‏,‏ أم كان ذلك بقايا حلم؟‏!‏ كان قد سمعها وهي تكلم شخصا ما جلس علي الكنبة في الصالة‏,‏ ليسترد أنفاسه المخنوقة‏,‏ وهو يحاول أن يعيد المشهد لقد رأي عينين فسفوريتين عينا القط الأسود الذي كان لا يفارق سعدية في أيامها الأخيرة‏,‏ وهنا علي الكنبة التي يجلس عليها الآن غير عبد الوهاب مكانه‏.‏
ماتت سعدية منذ شهرين تاركة له فراغا ما كان ليتخيل أن يعيشه‏,‏ خصوصا أنها كانت تصارع الكبد والسكر في وقت واحد كانت ترقد علي السرير طوال النهار لا تقوم إلا لتقضي حاجة‏,‏ وتأتي إحدي بنات أختها لتقضي مصالح الدار في الليل تحكي سعدية للقط آلامها لما رحلت باع القط لأنه كان يعتبره شخصا ممسوخا في صورة قط أسود‏.‏
هذه الأيام أصبح في أشد الاحتياج للساعة التي تأتي فيها ثناء جارته زوجة مستأجر أرضه تكنس له حجرات البيت تنفض ملاءة سريره تحت شمس الصباح الفاترة تنشر الكليم الذي يسهر قاعدا عليه هو وصابر وعبودة‏,‏ رفاقه العجائز‏,‏ بينهم الجوزة‏,‏ وورائهم التليفزيون الملون خافت الصوت والذكريات‏,‏ والتسبيح‏,‏ والحمد لما تنفض الجلسة لأكثر من سهرة في الأسبوع‏.‏
تدلق ثناء ماء الجوزة‏,‏ وتملأها بماء جديد‏,‏ ثم تجهز للعجوز فطوره‏,‏ وتطبخ له للغداء والعشاء يتغاضي العجوز عبدالوهاب كثيرا عن حقوق صغيرة في مقابل خدمتها‏.‏
يراقب العجوز ثناء أثناء رواحها ومجيئها داخل الغرف الثلاث الصغيرة‏,‏ والصالة المستطيلة الضيقة دون أن تلاحظ هي غالبا سرحانة في شيء لم يسع لمعرفته‏.‏
لو أراد العجوز عبدالوهاب الزواج لبحث عن أرملة أو عانس تخدمه مقابل اللقمة‏,‏ والهدمة‏,‏ وميراث في الغيط هو يحرس مالا لم يعد ماله في مقابل أن يرضي ابنا ستصل إليه كل الأشياء دون أن يعبأ ذلك الابن بأب يقضي أياما قلائل في الحياة لا يريد الولد الوحيد الذي نجا من الموت صغيرا أن يأخذ إجازة من الكفيل لسنة علي الأقل ويقعد مع أبيه لحقت به زوجته‏,‏ كلما طلب من ابنه أن تعود زوجته علي الأقل يتحجج بعملها مدرسة في إحدي المدارس الخاصة هناك‏.‏
يعرف الابن ما تفعله ثناء لأبيه فيرسل لها ولزوجها ولأولادها كسوة العام‏,‏ وهي تشبعه بالدعوات كلما أتت سيرته علي لسان الأب العجوز‏.‏
تخطو ثناء كثيرا نحو حجرة المعيشة كالضفدع بقامتها القصيرة المدكوكة في جلباب بني قديم طمست وروده وراء الوسخ يروح العجوز في النوم مرة أخري‏,‏ مغادرا ساعات الصباح إثر تكة اللسان الحديدي وهي يدخل في الكالون لما تشده ثناء وهي خارجة لتلحق بزوجها في الغيط‏.‏
نام عبدالوهاب علي الكنبة في الصالة‏,‏ واستيقظ علي صوت ثناء كان متفاجئا مثلها بالضبط‏,‏ إذ رأي كل شيء مرتبا ونظيفا سألته ثناء إن كان قد استيقظ ليلا‏,‏ وفعل ذلك فليس هناك من احتمال آخر؟‏!‏
أدرك السؤال بابتسامة مراوغة فهو لم يحدد بعد أي خطة سيتبع في الكشف عما يراه‏,‏نومه علي كنبة في الصالة دعم موقفه أمام ثناء التي لاتكتم أي شئ تراه عن زوجها‏.‏
ارتدي جلبابا نظيفا‏,‏وتوضأ‏.‏وضع عباءته الصفراء علي كتفه فقد أصبح يشعر بالبرد في الأيام الأخيرة رغم أن فصل الشتاء لايزال بعيدا عن البيوت‏.‏
لم يبح بالسر لأي من صاحبيه في هذا النهار‏.‏
ظن أن مايراه لم يتحدد بعد ولن يتكرر‏.‏
في الليلة التالية رأي سعدية بوضوح كأنما عادت ثلاثين عاما للوراء‏.‏
شقة الرأس الملونة التي يتسرب منها خيط حالك من شعر ناعم كان يصل لأعلي فخذيها‏,‏عنقها ملفوف طويل‏,‏ وخيوط رفيعة فوق جبهتها‏,‏ حتي أن العجوز لما دقق في قلب العتمة بجوار وجه زوجته رأي القط الأسود بوضوح أيضا يعرف نظرة القط المراوغة جيدا كان قد اشتري لها ذلك القط مؤخرا‏,‏فكيف يظهر معها هذا القط في صورتها الثلاثينية؟‏!‏
كان لهما منذ سنوات قط سيامي ذو فراء أبيض مرقش ببقع صفراء داكنة‏,‏رأس القط كان ضخما في أيامه الأخيرة‏,‏ وكذا جسده الذي ينسلت بسهولة من أسفل الطبلية‏,‏ ومن أسفل عقب الباب بينما هما نائمان يخرج القط السيامي ويعود في الليل بضع مرات كان العجوزعبد الوهاب يتحسس فرو القط‏.‏يشهر بليونة الأعشاب الخضراء التي يجلس عليها حين يذهب إلي غيطه المستأجر‏,‏ليشوي قليلا من كيزان الذرة أما سعدية فكانت تطعم القط‏,‏ وتناغيه مثلما كانت تناغي من قبل أطفالها الراحلين‏,‏ومحمد الذي غاب في الإمارات مات القط بعد أيام من سفر محمد تكالبت علي سعدية الوحدة فاشتري لها قطا أسود من سلالة أسيوية اختارته بنفسها‏,‏ وتعلقت بالقط الجديد أكثر من المألوف‏,‏ حتي أنه كره القط بعد أيام‏,‏ ثم أصبح يخافه حين يراه‏,‏ أو حين يكون القط موجودا معه بالغرفة وحدهما بينما سعيدية تتحامل علي قدمين مريضتين لتقضي مصالح البيت في أوقات نادرة‏,‏ حين تتركهما بنت الأخت الملولة‏.‏
مادعم إحساسه بهوية القط هو نظرته المتحدية‏,‏ حركاته المحسوبة‏,‏ مواؤه الخفيض أثناء الليل‏,‏ وكأنما يتحدث بلغة ملغزة طرده العجوز عبد الوهاب من الحجرة في الليل واضعا حشوه خشبية أسفل الباب القصير كي لايعبر القط إليهما وهما نائمان‏.‏
كان القط الأسود لحوحا في موائه الهاديء في الليل‏,‏ وكأنما يستجير ب سعدية لتعيده مرة أخري إلي مكانه علي كليم الأرضية الدافيء يصعد ويهبط علي سريرهما أثناء النوم‏.‏
قامت سعدية مرة في الليل فتحت باب الحجرة بهدوء‏.‏
كان الليل في منتصفه تظاهر عبد الوهاب بالنوم منظما خيط أنفاسه‏,‏فهو لايزوره النوم إلا بعد صلاة الفجر‏,‏ اعتدل في فراشه رمي بصره عبر شق الباب الموارب‏,‏ علي ضوء وناسة الكهرباء في الصالة رأي القط راقدا في حجر سعدية تكلمه بصوت هاديء وهي تميل علي أذنه تمسح بيديها المرتعشتين علي جسده تفارق الشهوة المرأة مع الجسد اليابس الذاهب الي الموت‏,‏ ولاتفارقها الحيلة‏,‏أو كشف الألغاز كان قد حدث نفسه بهذا وهو ينزلق من سريره بهدوء‏.‏مد أذنيه إلي ما وراء الباب سمع بعضا مما قالته سعدية للقط إنها تحكي للقط أسرارهما بينما كانا في عز شبابهما‏,‏ وتخبره بأوجاعها‏,‏ هل لهذا السبب يرافقها القط حين عادت بهيئتها في شبابها من العالم الآخر؟‏!‏
ماتت سعدية قبل أن يكشف عبد الوهاب سر القط الذي عاد إليه الآن في صورة شبح ليلي يرقد علي حجر سعدية الصامتة‏.‏
في قلب العتمة تجلس سعدية علي الكليم الذي كان منذ ساعات متكأ لعبد الوهاب وصاحبيه صابر وعبودة‏:‏ عجائز يهربون من ضجر زوجات الأبناء بالالتفاف حول الجوزة ووشيش التليفزيون‏,‏ وبعض الذكريات المعادة يتركهما عبودة ليقضي مع زوجته الجديدة ليلة جديدة‏.‏
يعرف عبد الوهاب وصابر أنه إنما يبالغ كثيرا بما يخبرهما به‏,‏ إلا أنهما من خلال كلامه يستعيدان مامضي من لذة كانت تدفيء أيامهما الباردة وظروفهما القاسية‏.‏
الآن تغيرت الدنيا صار لكل واحد من العجائز الثلاثة بيت بالطوب والخرسانة‏,‏ وأولاد يمتلكون بضعة أفدنة‏,‏ وبنات متزوجات وأخريات أرامل‏.‏ كان عبد الوهاب هو الوحيد في ثلاثتهم الذي يقعد وحيدا في داره التي بناها من طابق واحد له ابن وحيد ظل علي قيد الحياة‏,‏ تعلم وسافر وهجر
الأب إلا من مكالمة أسبوعية لاتشفي وحدته‏.‏ أما صابر فيقعد مع ابنه الأكبر في بيت العائلة‏,‏ وعبودة تزوج ووزع الميراث علي أولاده‏,‏ وكانوا قد اشترطوا عليه ذلك إن أراد الزواج‏,‏ وترك نصيبا لزوجته الجديدة‏.‏
دائما ما يكون القط مع سعدية‏.‏ لا يطلق مواء‏,‏ ولا يزعج عبد الوهاب‏.‏ فقط ينظر بوداعة كما تنظر سعدية بالضبط‏.‏ وكأنما يطمئن العجوز بوداعة العالم الآخر الذي يخاف عبد الوهاب كلما راح في النوم أن ينتقل إليه دون أن يدري‏.‏ عندما يستيقظ عبد الوهاب في الصباح يجد فطوره معدا‏.‏ تنظر ثناء وفي عينيها نظرة لؤم قائلة‏:‏
دا مقلب يا عم الحاج؟
يحلف عبد الوهاب وهو يتمطي من أثر النوم العميق أنه لم يفعل شيئا‏,‏ لكنه يستدرك خطأه بابتسامة أخري أمام المرأة متحججا بالوحدة التي يتحرك كثيرا حتي يسلي نفسه‏,‏ والمرأة تحاول أن تصدق‏,‏ بينما تسأله عفوا لماذا يظل وحيدا في بيت كبير كهذا دون ونس‏!‏
كان ينظر لها كل ليلة‏,‏ ثم ينتقل من فراشه إلي الكنبة في الصالة دون أن يجرأ علي الاقتراب من مكانها في قلب العتمة‏.‏ يشعل المصباح فتختفي‏.‏ يطفيء المصباح فتظهر وفي عينيها نظرة توسل‏,‏ لذلك كان يتركها رغم إحساسه أنها إنما تأتي لتؤنسه‏,‏ وتنقل له رسالة ما‏.‏ قلبه الضعيف الذي لم يعد يحتمل لا يتركه معها في غرفة واحدة‏.‏ يضبط منبه الساعة بجواره علي السادسة صباحا‏,‏ فإذا ما فاجأه الرنين تسلل إليه صياح الديك علي السطوح المجاورة وشقشقة عصافير تفتح عينيها للصباح‏.‏ يتحامل علي قدميه‏,‏ ويدخل حجرته‏,‏ كي لا تسأله ثناء لماذا ينام في الصالة؟‏!‏ ويزداد شكها في أي شيء‏.‏
قرر ألا يترك نفسه للقلق أكثر من ذلك‏.‏ في سهرة الليلة استبقي صابر‏:‏
خير يا عبد الوهاب؟
أنا هاقول لك علي سر بس يفضل في عبك لحد أما نعرف هانعمل إيه بالظبط؟
قال صابر مبتسما بتسليم‏:‏
وهي الأسرار عادت تنفعنا في حاجة؟‏!‏
لأ‏..‏ دا شيء خطير‏..‏ بص يا حاج‏..‏ سعدية بتزورني يوميا في الأوضة دي‏.‏
ربنا يطول في عمرك يا عبد الوهاب‏.‏
يا أخي‏..‏ مابتزورنيش في المنام‏..‏ بتقعد مكانك هنا علي الكليم ده‏,‏ وتبصلي كده من غير ما تتكلم‏.‏
أه‏(‏ تحرك صابر من مكانه مرتبكا‏,‏ وجلس فوق السرير في الجهة الأخري‏).‏ بتزورك‏!‏ سلامة نظرك‏..‏ هاء‏,‏ هاء‏..‏ ضحكتني‏,‏ وبقي هايوجعني من الضحك‏,‏ ما هو الضحك في سننا أغلي من البكاء‏.‏
عاجله عبد الوهاب بنرفزة‏:‏
يا أخي‏..‏ ما تطرطش في الكلام‏..‏ إذا كنت خايف ما اتكلمش‏.‏
وأنا أقدر أمشي من غير ما تكمل‏..‏ إحنا ها نخاف من قدر ربنا برضه‏..‏ دا إحنا ماخفنا وإحنا شباب نخاف دلوقتي‏!‏
كنا شباب‏..‏ نقدر ندافع عن نفسنا‏..‏ دلوقتي إحنا مساكين‏,‏ كل يوم بناخده من الدنيا مكسب‏.‏
قول يا عبد الوهاب‏..‏ بس علي الله ما يبقاش مقلب من مقالبك إياها‏..‏ ليكون زي موضوع الريموت كنترول‏,‏ ولا شنيف الحطب‏,‏ ولا الجميزة المسكونة ببنت ملك الجان؟ افتكر لك إيه ولا إيه‏!‏
تهطل علي رأس صابر كل المقالب التي شربها من قبل من صاحبه عبد الوهاب‏,‏ غير أن نبرة الأسي في وجه صديقه جعلته يصدق المأساة التي يعيش فيها صاحبه‏,‏ والخفة التي بدأت تتسرب إلي كلامه‏,‏ وذكره الدائم للموت الذي يزوره‏,‏ والموتي الذين يراهم في حجرته‏.‏ هم جميعا قدم في الدنيا وقدم في الآخرة‏,‏ لكن عبد الوهاب أكبرهم سنا‏,‏ وأكثرهم إنهاكا بالأمراض‏.‏ اتجه عبد الوهاب إلي مفاتيح الكهرباء‏.‏ قام صابر‏,‏ وقف بجواره‏.‏ اقفل عبد الوهاب مفتاح لمبة الحجرة‏,‏ قائلا لصاحبه‏:‏
بص كويس يا صابر‏.‏
لقطة استمرت تبزغ شيئا فشيئا في العتمة علي إثرها رطن صابر بالقلق قائلا ل عبد الوهاب‏:‏
ولع النور بسرعة‏,‏ النور‏.‏
أشعل عبد الوهاب لمبة الكهرباء‏.‏ رأي في وجه صاحبه فزعا مثلما أحس هو من قبل‏.‏ بالتأكيد رأي صابر سعدية والقط‏.‏ ازداد العجوزان التصاقا بعضهما ببعض‏.‏ نطق صابر بعد أن تخلص من طعم الليمون المفاجيء في حلقه‏:‏
لا إله إلا الله‏,‏ دا حقيقي‏.‏
وكمان بتعمل لي كل أطلبه‏,‏ يعني مثلا تحب نشرب شاي‏,‏ كوبايتين شاي يا سعدية‏.‏
كان البوتاجاز الصغير وعدة الشاي في الحجرة‏.‏ تراجع عبد الوهاب‏,‏ وسحب صابر من يده‏,‏ أطفأ النور‏,‏ وأغلق باب الحجرة‏,‏ وانتظر لدقائق‏,‏ ثم دخل الحجرة‏,‏ وفتح لمبة الكهرباء‏,‏ فإذا بكوبي الشاي علي صينية الألومنيوم يخرج من أعلاهما بخار دافئ‏.‏ ناول صابر كوب الشاي‏,‏ فتراجع صابر للوراء منزعجا‏:‏
اشرب إيه يا عبد الوهاب‏,‏ انت عاوزني أموت‏.‏
يا جدع ما يبقاش قلبك خفيف‏..‏ أنا هاشرب قدامك أهو‏.‏
في تلك الليلة لم ينم صابر لحظة واحدة حين عاد لبيته‏.‏ ظل يراقب في الظلام مفرش الخوص في حجرته ليري زوجته التي رحلت‏,‏ أو أي من إخوته‏,‏ وأخواته البنات‏,‏ لكنه لم يلمح طيفا للراحلين‏.‏ أما عبد الوهاب فتمدد في فراشه مطمئنا لأنه لم يعد يملك وحده السر‏.‏ طوال الليل كان ينظر ل سعدية باطمئنان رغم نظرة اللوم في عينيها‏.‏ رمي للقط نظرات متشفعة لعل له في قلب الراحلة خاطر‏,‏ ولم يستطع‏,‏ أيضا‏,‏ أن يذهب إليهما في قلب العتمة‏,‏ بل عاد بعد دقائق إلي نومته التي اعتادها منذ أيام في الصالة ضابطا منبه الساعة علي السادسة صباحا‏.‏
أتت ثناء في الصباح‏,‏ وهي متأكدة أنه لا يحتاج منها خدمة صغيرة‏.‏ تطمئن فقط‏,‏ ثم تذهب مع زوجها إلي الغيط‏.‏ في المساء التالي جلس صابر‏,‏ ولم يذهب مع عبودة‏,‏ أحس عبد الوهاب بأن صابر لديه شيء يريد أن يقوله‏.‏ قال صابر لما اطمأن إلي خلو المكان‏:‏
طفي الكهربا كده يا عبد الوهاب
كان العجوزان يقفان علي باب الحجرة‏,‏ يحدقان بعيون باهتة في المرأة والقط‏,‏ بعد قليل ظهر آخرون‏.‏ زوجة صابر‏,‏ وأخواه اللذان رحلا‏,‏ وأبوه وأمه‏,‏ فقال ل عبد الوهاب‏:‏
اشمعنا عندك بس بيظهروا‏,‏ شوف الحبايب‏,‏ بالأبيض والأسود‏.‏
ما هو زمنا الحلو كان أبيض وأسود‏.‏
تقدم صابر قليلا ليختبر هذا الذي يراه‏,‏ فهو لن يستطيع العودة إلي البيت وقد رأي ما رأي‏.‏ بعد قليل نادي عبد الوهاب علي صاحبه لما تأخر في العودة‏:‏
يا حاج‏,‏ يا حاج صابر‏,‏ يا صابر‏.‏
ولما لم يرد صابر أشعل عبد الوهاب مفتاح الكهرباء فلم ير لصاحبه أثرا‏.‏ كاد يتهاوي من الرعب‏.‏ كان عبد الوهاب واقفا علي مدخل الباب‏.‏ لو أن صابر عبر إلي غرفة أخري لأي شيء لأحس به عبد الوهاب‏.‏ بحث في أرجاء المنزل مغلق الأبواب دون أن يري أثرا لصاحبه‏.‏ يخشي أن يترك المنزل في هذا الوقت المتأخر‏,‏ ليبلغ أحدا من أبناء صابر أو حفدته‏.‏ زوجات الأبناء قساة القلوب سينظرون بتحد إلي شيخوخة عبد الوهاب غير آبهين بأوجاعه‏,‏ متهمين إياه بالتخلص من صاحبه‏.‏ هل هذا معقول؟‏!‏ لمن يعيش إذا فقد الصديق؟‏!‏ سيبحث عبودة عنهما‏,‏ لكن عبودة هو الآخر لا يأبه سوي لزوجته الجديدة‏.‏
اتجه عبد الوهاب إلي الغرفة مرغما‏.‏ أطفأ النور‏,‏ فبزغت عيون كثيرة وادعة في وجوه نبتت كأقمار وراء نتف شفافة من سحب الخريف‏.‏ رأي صابر فجأة صامتا وسط الصامتين‏.‏ بقدمين نحيلتين لم يجد عبد الوهاب مناصا من البحث‏.‏ خطا للأمام بعد أن شمر الجلباب حتي وسطه داخلا هو الآخر في قلب العتمة‏.‏
رابط دائم :


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.