فى هوجة التأميمات الاشتراكية، حدث ما يُسمى بمذبحة السينما. فى مدينتى الإسكندرية على وجه المثال، انهارت أغلبية دور السينما؛ سينما بارك وسينما الدورادو وماجستيك كونكورد ذهبت مع الريح، وتفسّخت سينما كوزومو فتحولت إلى مول، وسينما التتويج انخسفت لمخزن أخشاب، وسينما محرم بك طورها الموظفون لفئة خرابة وأطلقوا عليها سينما أوبرا! هذا بخلاف السينمات التى كانت متناثرة فى أحياء إسكندرية الشعبية، مثل دارى السينما المتجاورتين قيس وليلى! لاحظ جمال الأسماء والذوق الرفيع. وكانت العائلات تدخل هذه السينمات وتستمتع بالأفلام العربية والأجنبية. وأشهر سينمتين للشباب، خلال نهايات الخمسينات وبدايات الستينات كانتا الهمبرا وبلازا، وهما فى ميدان محطة الرمل حيث المربع الذهبى الذى يعشقه السكندريون وكل من يزور الثغر. ولأن الطلبة فى المرحلة الثانوية كانوا يزوغون من مدارسهم ليدخلوهما فى الحفلات الصباحية؛ صار اسم السينمتين.. كلية الهمبرا وكلية بلازا. وكان الطلبة خاصة خلال عروض أفلام «الأكشن» مثل (مدافع نافارون) بتاع أنتونى كوين وجريجورى بيك، أو فيلم من أفلام القتال العنيف، قبل بداية الفيلم وفى الاستراحة، تحدث بينهما مشاجرات أغلبها كلامية -ولا ننسى أننا من الشعوب الحنجورية- وتنطلق النكات الجنسية والمساجلات البذيئة بين عصابات الطلبة المراهقين. وكانت العصابة الأصيع بدون منازع، هى عصابة مدرسة محمد على للصنايع، وكأن الصنعة التى يتعلمونها هى الصياعة التى تحتوى على شتيمة الأمهات والشتائم الجنسية. ثم ينحدر مستوى الكليتين (الهمبرا وبلازا) مع شامل التعليم فى مصر، فتنهدم الهمبرا ومعناها «الحمرة» مثل قصر الحمراء بالأندلس، وصارت سينما بلازا ومعناها «القصر» ملاذاً للشواذ، ثم أغلقت تماما لتكون خرابة من خرابات الإسكندرية التى كانت ماسية وقت الخواجات، ثم صارت «مآسية» بعدهم. المهم، السينمات انهارت بعدما تم تأميم السينمات ليديرها الفاشلون، وتسقط صناعة السينما التى كانت تجنى لمصر دخلاً عظيما، يقارب دخل تصدير القطن! جيلنا انبهر بالممثلين جارى كوبر وبرت لانكستر وغيرهما، واتفرج عليهم لما يقعوا فى بعض! أيوووه (أيوووه لفظ تعجب سكندرى، ترجمته بالأمريكانى واااو) ثم دخلنا على الجنس اللطيف، فعشقنا مارلين مونرو التى أثرت كثيراً على ممثلات مصر، خاصة جميلتنا هند رستم التى صبغت شعرها لتكون شقراء مثل مارلين، فالرجال المصريون يفضلونها شقراء حسب اسم الفيلم الأمريكى الشهير «البعض يفضلونها شقراء» ومن بعد مارلين كانت أنيتا أكبرج السويدية ثم السويسرية أورسولا أندروز الشقراوين أيضاً. ثم الإيطاليات السمراوات (سمراوات أى شعرهن أسود فقط لا غير) صوفيا لورين وجينا لولو بريجيدا ثم سيلفانا مانجانو وكانت مانجة بحق. قامت (مانجة) ببطولة فيلم «الأرز المر» وهذا الفيلم كان بالغ الإثارة وقتها، حالياً تشاهد العائلات الأنقح منه فى التليفزيون ولا كإن حاجة بتحصل! تَقَدُّم وعَوْلَمة يا بك. الفيلم الهوليودى طوّع عقولنا فاعتقدنا أن الغرب هو السيد وأن الهنود الحمر هم الأشرار، وأن الطيبين من الهنود هم الذين يتبعون ويخدمون بطل الغرب الطيب الوسيم الشجاع. ومع إعجابنا بالممثلين الذين يستطيعون اللكم وتقبيل الفتيات والذود عن الحق. تابعنا منبهرين الممثلين الذين يقومون بأدوار الشر، وإن كنّا لا نحفظ أسماءهم، إلا القليل مثل جاك بالانس، الذى يشى وجهه بالشر لبروز وجنتيه. فكُتب عليه القيام بأدوار الشر، فيما عدا فيلم واحد قام ببطولته وفشل وأظن اسمه (السكين الكبير). وبالانس مثل فيلماً مثيراً مع روبرت ميتشوم وصارعا بعضهما على تليفريك سابح فوق الجبال، حتى تمكن ميتشوم من إلقاء بالانس من التليفريك ليموت ميته بشعة، ونصفق للبطل القوى الوسيم. وبعض الممثلين والممثلات أنصاف المشهورين، كان لهم حضور قوى فى نفوسنا، أمثال أنا مانيانى التى تربت فى الإسكندرية، وأرنست بولجانين الضخم ذى الوجه الغليظ الخشن، ورغم هذا فوجهه يشى بالطيبة! وكارل مالدن ذى الأنف الخرافى وغيرهم. وأذكر الرجّة التى صدمنا بها ممثل أسود هو سيدنى بواتيه الذى عرفناه فى الفيلم الشهير «حطمت قيودى» مع النجم الوسيم تونى كيرتس، فكان منافساً لكيرتس وأخذ قلوب المشاهدين، ثم كان فيلمه «إلى مدرسى مع حبى» الذى اقتبس منه مسرحية «مدرسة المشاغبين» فأثرت على مسيرة المسرح المصرى. ومن بعد سيدنى بواتيه توالى الأبطال السود والبطلات السوداوات فى أدوار جيدة، تمثل حال السود الحقيقى المتصاعد. ودور هؤلاء النجوم السود كان مؤثراً على السود فى أنحاء العالم بمن فيهم سُمر مصر. وفى نهايات الخمسينات وبدايات الستينات، ظهر الفيلم الهندى بقوة وجذب المصريين المتيمين بالميلودراما الزاعقة. تابعنا فيلم (آن الأميرة المتوحشة) وفيلم (من أجل أولادى) وهى قصة أم فقيرة تربى ولديها فى ظروف تعسة، فيكون أحدهما طيباً والآخر رغم طيبته، يتزعم عصابة ويهاجم الظلمة الكبار ويضر أيضاً بغيرهم؛ فتضطر أمه أن تقتله فى مشهد مأساوى هندى مؤثر، أبكى المشاهدين. ثم فيلم (سانجام) الذى أذهل الجمهور المصرى بأغانيه ورقصاته ورومانسيته. أفلام ساذجة لكنها مليئة بالميلودراما والرقص والغناء الهنديين الرائعين. حديثاً ظهر الممثل الهندى أميتاب باتشان، الذى التفت حوله فتيات القاهرة حين جاءها زائراً، وأغمى على بعضهن فذهل هو شخصياً من كل هذه الحفاوة. فقد كان يظن نفسه هندياً بالمعنى الشعبى المصرى الظالم، فوجد المصريين أكثر هنديّة، ووجد راقصة اسمها (هندية)، وربما علم أن فى مصر قرية تمثل حال عموم مصر، هى قرية (كفر الهنادوة) المصرية التى اخترعها أحمد رجب وبرع فى رسمها مصطفى حسين. هذه لمحات لسنوات لم يعرفها أبناء هذه السنوات.