إذا أردنا الحياة، لا بد أن تكون مصر شعبا «مستثنى» من الجهل؛ فمصر نبت الحضارة ورحم العلم وأم المعرفة وبنت الوعى وفجر الضمير الذى أشرقت شمسه على العالم. وعندما أرادت أن تكون قوة عظمى تآمروا عليها وفتحوا لها خزائن الشر والجهل الذى ليس منها ولا يشبهها ولم يكن أبدا لها. الجهل هو الصخرة التى يتحطم عليها كل فعل أو إرادة أو طاقة بناء. والآن، إذا أردنا الحياة لا بد أن نطلّق الجهل طلقة بائنة لا رجعة فيها، لا بد أن نغادر عتبة الجهل ونطلب العلم ونجعل منه المدد والعون. الجهل بوابة الإرهاب وأرضه الخصبة التى لا تتوقف عن الطرح. الجهل محنة وفتنة، والفتنة أشد من القتل. الجهل منحة حكامنا إلينا، بالجهل نكون مطية لكل فاسد وكل مستبد وكل مشعوذ، وما أكثر الدجالين وأدعياء العلم والدين.. وإذا أبقينا الجهل على ما هو عليه فهذا معناه أننا اخترنا الموت رغم أننا على قيد الحياة، لكننا بالجهل لسنا على قيد الإنسانية والحضارة. «عيش.. حرية.. عدالة اجتماعية».. الثلاثية المصرية المقدسة المتجددة الدائمة الحاضرة غير المتحققة بعدُ، لن تتحقق ببناء اقتصادى وحلول اقتصادية مبدعة وغير تقليدية فقط، لكنها ستظل شعارات تحلّق فى سماء الأمنيات إذا لم تتزامن معها أفكار استثنائية خلاقة فى بناء الوعى والتنوير. إذا كان الأمن والاقتصاد أهم المهم لمصر فى المرحلة المقبلة فلا بد أن يكون العلم ثالثهما؛ فالأمان ضرورة للاقتصاد والاقتصاد الذى يمتلك العافية والتحليق فى سماوات مختلفة يغير واقع مصر، ولكن إذا لم يتزامن ذلك مع بناء الوعى والعلم فسوف نبقى وطنا كبيرا بحكم التاريخ والجغرافيا، لكنه ليس كذلك فى حكم الواقع؛ فالوطن الذى يفتقد الرؤية ولا يحتكم للعلم ولا ينحاز للتنوير لن يكون على خريطة الحضارة. أن تصنع خبزا.. تخلق عملا.. ولكن إذا لم تصنع تنويرا وتخلق علما، فلن يعطيك الله شعبا صالحا. تقاس قيمة الأفراد والشعوب وقوتها بمقدار حركة الفكر فيها، إنها مقولة توفيق الحكيم نافذ البصيرة الذى قال أيضا: التفكير حركة الشك والعمل هو ثبات اليقين، الإيمان قوة الثبات، إذن الفكر والعلم والعمل والإيمان قوة بناء الوطن، بناء على علم. هذا البناء لا يبنيه رئيس فقط، لكنه إرادة شعب لا يريد أن يبقى على ذمة الجهل.. الجهل هو مكيدة الحكام للشعوب، وهو الذى يجعل الشعب والدولة فريسة لأى شر سياسى أو تيار مشبوه.. أو شاذ أو منحرف الفكر. فنظام «مبارك» صلى على الجهل ورضى عنه.. جماعة الإخوان اقتاتت على جهل الناس وعملت لبقاء الجهل على ما هو عليه؛ فهذه الجماعة لم تكن تريد تقديم أى مشروع يرفع وعى الناس ومستوى تعليمهم؛ لأن خروج الجهل من الشباك معناه فتح الأبواب للعلم والوعى، وهذا ضد مصلحتهم.. فلوا استمروا فى الحكم مائة عام لكانت الأولوية الأولى لهم أن يبقى هذا الشعب على جهله؛ لأنه الضمانة لاستمرار الفساد والطغيان، ومنذ تجربة محمد على لإخراج مصر من ظلمات الجهل إلى نور العلم، والعالم لا يريد أن تعقد مصر قرانها على العلم. الحاكم الفاسد والمستبد هو ألد عدو، لكل ما هو فكر وما هو نور وما هو حضارة؛ فالمتاحف والفنون والثقافة ودور العبادة أعداء لقطاع طرق التاريخ الذين لا يمتلكون سوى شهوة الحكم والمسحورين بالكرسى. إنهم مخلوقات لا تحكم إلا فى الظلام وبالظلام، فإذا استفاق شعب أو أبصر فهذا معناه نهاية أى طاغية. على الرئيس القادم -وأولى الأمر منا- أن يعتبر أن الأمانة التاريخية هى أن يكون نور العلم الأهم فى قائمته، وإرساء وبناء وترسيخ الوعى ليبصر هذا الشعب طريقه، هو الحصانة الوحيدة لمصر حتى لا يحكمها تيار إجرامى أو حاكم مستبد أو مسئول فاسد. الأمن، الاقتصاد، وثالثهما العلم.. الثلاثى الأهم الذى يجب أن يكون الليل والنهار للرئيس القادم، وأن يترجم هذا الهم إلى فعل وطرق إبداعية جديدة وإلا سيبقى سرادق العزاء مفتوحا بعد صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء لنتلقى العزاء فى المرحومة مصر؛ لأن شعبها وحكامها قرروا أن ينتقلوا بها من مهد العلم إلى ختم الجهل.