مُستندًا إلى سور كوبرى قصر النيل، كوبريه المُفضل، هكذا إعتاد أن يعتبره من أملاكه الخاصة، التي لن يستطيع أحد أن ينتزعها منه، كما انتزعوا منه حياته.. أخد يرمق النيل بنظرة زجاجية خاوية، لا ترى ما أمامها من مساحات زرقاء شاسعة، بينما عقله يسرح بعيدًا إلى أبعاد أخرى تتخللها ذكريات أخرى، اعتاد أن يكون فيها سعيدًا مُشرقًا ومُقبلًا على هذه الحياة. هكذا بحق تبدأ القصص التقليدية النمطية، التي تستطيع أن تستشف من سطورها الأولى، كيف سيكون تتابعها الدرامي وإلى ماذا سوف تنتهي!.. رباه! متى تنتهي النمطية والتقليدية من هذا العالم السخيف؟.. تستيقظ صباحًا، لتُدرك أنك أمام أطنانًا من الروتينيات التي تنتظر أن تؤديها بحماس منقطع النظير!.. فقط لا تُدرك، أنك أضعت الكثير من سنوات عمرك القليلة في عشق نفس الفتاة، إلا بعد فوات الآوان، بعد أن تتأكد أنها لم ولن تكن أبدًا، فتاة عُمرك المزعومة تلك. تبحث في جيبك عن اللاشئ، حتى تتحسس شيئًا لا تدري طبيعته، تُخرجه، فتنظر له باشمئزاز، لتُدرك أنه تذكار قديم، أهدتك إياه في وقت ما لا تتذكره.. تقذفه بأقصى إمكانات ذراعك؛ ليستقر في النيل بجوار جثة حمار تسبح في رشاقة، أو ليضيع بين ورد النيل الذي ينتشر على سطحه، فلا يزيده إلا قبحًا وإخضرارًا..لا فارق!. فقط، تعتذر عن وصف مساحات المياه الشاسعة بالزرقاء؛ لأن الأمور مع الوقت تتحول إلى اللون الأخضر، بلون القئ الأخضر، الذي تطرده معدتك بعد أن تتلوى أمعائك ألمًا، لأن بقايا سندوتش الكبدة، الذي ابتاعته من إحدى العربات الحقيرة، والذي تأكله الآن، تؤكد أن السندوتش بنفس حقارة العربة.. هكذا كانت حياتك معها ومع غيرها.. خليط من اللون الأخضر كالقئ، والأحمر كلون عشرات الدباديب، التي ابتعتها في أعياد الحُب المتتالية من أجلها، بينما توشك أن ترى في عينيها، نظرة السأم والحيرة من كل هذه الدباديب، التي لا تجد لها مكانًا في خزانتها أو بجوار فراشها، فتتمنى لو تستطيع أن تستبدل الابتسامة الصفراء، التي ترتسم على شفتيها الآن، بُسبة تلقيها في وجهك وترحل، حتى تستريح من كل هذه الدباديب الحمراء!. فقط تتساءل، لماذا لم تُفكر في استبدال الدبدوب الأحمر، بآخر "بينك" أو أصفر بلون البول، الذي يتخلص منه أحدهم الآن، أسفل الكوبرى في النيل الأخضر!!.. ولكنك تتذكر، أن ترف شراء أشياء أخرى غير الدباديب الحمراء ليس لأمثالك.. تبتسم لتكشف عن أسنان صفراء نخرة، دمرها التدخين تدميرًا، وتتحسس ذقنك الخشنة في إعجاب، مُستمتعًا بإحساس الشكشكة هذا، قبل أن تلتفت لتراها تنظر لك في حنان!.. هكذا يجب أن تكون النظرات، حنونة، ثاقبة، ومُحققة لأهدافها الخمس!!. لا تتذكر ماهي الأهداف الخمس، ولكنك تكتفي بُمبادلتها النظرة بأخرى بلهاء، رافعًا حاجبك، في لازمة حركية تجعلك فاتنًا، أو هذا ما تظنه أنت بالطبع، ولا يراه غيرك!.. تقترب منك خطوة، فتقترب بأحسن منها.. تقترب منك خطوة، فيتراءى لك مستقبلك معها.. تقترب منك خطوة، فترى صغيرتك مريم، التي أنجبتها منها تقترب في خطوات طفولية متعثرة، وهي تصيح: بابا جيه.. بابا جيه.. تقترب منك خطوة، فترى أصناف رائعة من المحشو، تستقر على المائدة، بينما تأثير رائحة الملوخية القادمة من المطبخ، يفوق تأثير سجارة الحشيش الذى تتبادله مع أقرانك ليلًا، كلما فتح الله عليكم به.. تقترب منك خطوة، فترى مريم ولؤي بشعورهم الناعمة الذهبية، التي تتطاير وهم يركضون نحوكما، في حديقة الفيلا بالحركة البطيئة، بينما تضحك في سعادة كاشفًا عن أسنان نضدة بيضاء، وتستعد لاستقبالهما في أحضانك، ولا تُفكر كثيرًا في مصدر الشعر الناعم الذهبي، فشعرك الأسود الأكرت، وشعرها البني الأكرت بدوره، والذي لم تستطع أنسام الهواء الرقيقة القادمة من النيل في تحريكه، لا يمكن أن يكونا أبدًا مصدرًا لهذه الشعور الناعمة.. تقترب منك خطوة، فترى نفسك مُفلسًا بعد أن خاطرت بوضع كل أموالك في البورصة، فكان أن خسرتها عن بكرة أبيها.. تقترب منك خطوة، فترى كيف ساءت الأمور، إلى حد أنك عدت مرة أخرى لتدخين "الكلوبترا البوكس الفرط"، لأنك لا تمُلك إلا ثمنها البخس. تقترب منك خطوة، فتقف في المرآة مُبتسمًا، لتكشف عن أسنان نخرة صفراء دمرها التدخين تدميرًا.. تقترب منك خطوة، فترى كيف أن الحياة معها لا تطاق، فلا تجد إلا أن تفتعل معها مشاجرة عنيفة، لتترك لها الغرفة الحقيرة التى استطعت توفيرها أخيرًا، بعد شهور من المرمطة.. تقترب منك خطوة، فترى نفسك مُستندًا إلى سور كوبري قصر النيل، ترمق المساحات الزرقاء الشاسعة بنظرة زجاجية خاوية.. تقترب منك خطوة فتتجاوزك، وهي تُمّنى نفسها بكوب من حمص الشام اللذيذ، من العربة الحقيرة بجوارك، وتعلق شفتيها في لذة، بينما تجر أطنانًا من الشحوم والدهون خلفها!!. فتقترب منها خطوة، لتخبرها أنه: على فكرة.. أنا كده كده، مكنتش هاتجوزك أصلًا!.. ترمقك وأنت تعود أدراجك مرة أخرى بذهول، بينما تنطبع على سحنتها نظرة غبية مُندهشة، قبل أن تفيق على صوت البائع الأجش وهو يخبرها أن: "الحلبسة يا مزمازيل"!.