أكتب هذه الكلمات وأنا أستمع لسيدة الغناء العربى تشدو قائلة: «الشعب بيزحف زى النور، الشعب جبال، الشعب بحور، بركان غضبان، بركان بيفور، زلزال بيشق لهم فى قبور».. وأثناء كتابتى جاءنى اتصال هاتفى سريع من الأستاذ الفاضل مختار نوح يقول لى فيه: إنه يكتب بياناً وضعه تحت عنوان: (على الإرهاب أن يحذر غضبة الشعوب) وسألنى ما إذا كنت أرغب فى أن يوضع اسمى توقيعاً على هذا البيان ضمن أسماء فقلت: بالطبع نعم، واستطردت قائلاً: إنه للمصادفة فإننى أكتب الآن مقالاً بعنوان (الشعب يزحف مثل النور) ولما انتهت المكالمة امتلأت بإحساس طاغٍ وهو أن الزحف آت وأن الذى يتفاعل ويتشاعل داخلى هو نفس الذى تمتلئ به كل النفوس والقلوب فى مصر، وبدأت أكتب وأقول: نحن الخازندار ونحن النقراشى ونحن رجل اسمه عباس ونحن شهداء الدستور ولو قطعوا علينا الطريق وهدّوا أمامنا الجسور سنظل نلتف حولهم ندور وندور نعبر من سور وراءه السور حتى نصل إلى لجان الدستور. نوقع ونبصم ونقرر لا للظلام نعم للنور. لماذا قتل الخازندار؟ لأنه لم يقبل الفرار، لأنه لم يَخْشَ تهديد القتل ولم يأبه بأصوات الدمار. كان كالبطل المغوار؛ قاضٍ من القضاة الأحرار. هددوا غيره بالقتل إن أدان إجرامهم أو أصدر القرار. ثم دارت القضية إلى دائرته وقال الناصحون له لا تدق فى نعشك مسمار. أجّل القضية كما أجّل غيرك ولا ترطم رأسك بالجدار. فأقسم بالله العزيز الجبار وأصر أيّما إصرار أن يحكم بالعدل وأن ينطق بالحق كُلاً متكاملاً وليس بمقدار. لم يقبل أن يكون لمصر جيشان وأن يصبح لأرضها شعبان وقال إن من حمل السلاح بغير كفاح هو جبان فكفاحنا ضد المستعمر؛ ضد الظلم والطغيان، لا نوجه فيه الرصاص إلى قلب مصرى إنسان. فقتلوه كما وعدوا أو بالأحرى واعدوا وقالوا حينها إنا قاتلوه إننا نحن المسلمون الإخوان. أمام منزله كان ينزف الدم وعلى جثته وقعت زوجته وابنته يصرخان. لكنه فى النهاية قضى شهيداً كما يقضى كل الأبطال الشجعان. ونحن النقراشى الذى قرر بخطوة جريئة شجاعة أن يحل الجماعة، حاولوا منعه، هددوا وحذروا فنفذ فى أربع وعشرين ساعة. وقالها للرفاق أعلم ديتها رصاصة فى القلب يطلقها بخسة ووضاعة مجرم من الجماعة. وفعلوا ما هددوا وما وعدوا لكنه فدائى سجن قديماً فى سجون الاحتلال، كان بطلاً، الخوف عنده شىء محال. حينها كتب الأستاذ العقاد مقالاً شهيراً وضعه بعنوان أظنه صار علامة ودليلاً فقد كتب يقول: هم خَوّان لا إخوان، الحروف تتشابه لكن المعانى تتقاطع فالإخوان جمع أخ بينما الخوان جمع خائن. إنهم يظنون بأنهم قد وضعوا فى طريقنا الألغام وملأوا عقولنا بالأوهام وأننا يوم الزحف سوف نُولّى ونطرد من آمالنا أجمل الأحلام، لكننا شاهد لا يمكن أن يسكت عن شهادة الحق. لقد كان الأستاذ عباس مدرساً بسيطاً ساقته الأقدار للعمل فى إحدى قرى الصعيد، وكان يسير يوماً فى طرقاتها حينما جاء رجلان مسلحان وانفردا بمسكين غلبان شاء حظه أن يكون أخاً لقاتل جبان وأتى هؤلاء ليقتصوا منه فأردوه أمام المارة قتيلاً وحذروه وحذروا أى إنسان أن يذكر ما رأت العينان، لكن الأستاذ عباس كان يعلّم الأولاد معانى الحق والعدل فكيف بجبنكما يجبن أى جبان؟! كان المدفع فوق رأسه وفوهة المسدس فى حلقه نصحه كل الناصحين ارحل من هنا فأنت غريب وهذا قانون لذلك البلد العجيب فسكت الرجل وكلما أسرفوا فى النصح والكلام لا يجيب. لكنه فى اللحظة الحاسمة حينما أتت الشرطة وجاء وكيل النيابة وطلب منه الشهادة أبى أن يكون شيطاناً أخرس يسكت عن الحق وأصر على أن يمضى عبر الطريق الملغم بالموت ترصده العيون وتلاحقه الأيادى ممسكة بأدوات القتل ولا تبالى، لكنه كلما سار من شارع إلى شارع تنامى إلهامه وازداد إقدامه تسارعت خطواته وتساقطت مخاوفه وإحباطاته. وبدا كالسهم مصوباً نحو الهدف قلبه يجرى إليه بشغف وقالها شهادة الحق ووقع عليها رغم التهديد بالحرق والشنق. ونحن لن نقل عن الخازندار والنقراشى والأستاذ عباس الذى اكتفى كاتب قصته بأن قال (رجل اسمه عباس).