العبادات مصانع الرجال، حيث تَسْقِى طِباعَ الإنسان وبواطنه بمعرفة الحق وجلال الغيب وجسارة القلب وقوة الطبع، وتربط الإنسان بالأكابر من أهل القوة والعزيمة، عبر تاريخ البشرية الطويل، وتُطْلِعُ الإنسان على أحوال الأنبياء مع أممهم، وكيف أن كل نبى نهض له أهل العزيمة والصدق، فهم الذين صدَّقوا وآمنوا، وأقبلوا معه على الله تعالى، وحملوا مواريث النبوة، ومناهج اليقين، وصبروا وجاهدوا، فهم رجال، صَدَقوا ما عاهدوا الله عليه، فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر، وتركوا للبشرية من بعدهم أحسن الذكر وأطيب الثناء، كما أن العبادة تفتح للإنسان آفاقه على العمل والصبر والإنجاز، وتجعله شغوفا بعمارة الأرض، وبناء المؤسسات، والغرس والنفع، ومحبة الجود والعطاء والشهامة، فينصهر ما فى الباطن من شوائب الضعف والوهن والترهل، ويشتد عود الإنسان وينضج، ويتعلم محبة المساجد، وتعميرها، وملازمتها، وكثرة ذكر الله تعالى وتسبيحه وشكره، فالعبادات والفرائض تفطم طبع الإنسان عن العبث، وتصونه من الترهل والوهن، وتعلمه الجد والحزم والقوة والجسارة، وتجعله قويا حيثما توجه، وتملأ باطنه بالثبات، والإقدام، ففى رياض العبادة تنبت الرجولة والبطولة، وتُصْقَل الشخصيةُ القوية، الممتزجة بمعرفة الله تعالى وتوقيره وإجلاله، وكثرة ذكره وشكره والإخبات له، مع تمام الوجل من خشيته، والخضوع لعظمته، والسعى فى تعظيم شعائره، واستلهام وحيه ومراده سبحانه فى كل باب ومجال، روى البخارى فى صحيحه عن أبى هريرة (رضى الله عنه) عن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: «سبعة يظلهم الله يوم القيامة فى ظله يوم لا ظل إلا ظله»، فذكر منهم: (ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه، ورجل قلبه معلق بالمساجد)، وقد جمع الله تعالى أكثر معالم الرجولة الحقة الكاملة فى آيتين من سورة النور، فقال سبحانه: (فى بيوت أذن الله أن تُرْفَعَ ويُذْكَرَ فيها اسمُهُ يُسَبِّحُ له فيها بالغُدُوِّ والآصَالِ * رجالٌ لا تلهيهم تجارةٌ ولا بيعٌ عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوماً تَتَقَلَّبُ فيه القلوبُ والأبصار)، (سورة النور، الآيتان 36، 37)، فهذه مفاتيح بناء الشخصية الكاملة، وهى ترجع إلى المساجد، وعمارتها، والارتباط بها، وكثرة ذكر الله تعالى وتسبيحه، وأن صاحب العبادة لا يضعف أمام أعراض الدنيا، من شئون التجارة، والبيع والشراء، وإدارة الأموال والمشاريع، وكثرة الارتباطات والمواعيد والأسفار والصفقات، بحيث ينسى لأجلها الفرائض، ويغفل عن معاده ويوم لقاء ربه، بل إنه يُحْسِنُ تركيب شئون عمارة الأرض، وتدوير الأموال والاستثمار، مع شئون العبادة والإقبال على الله، مع تمام استحضار الآخرة، كأنها حاضرةٌ، حيةٌ، ماثلةٌ أمام الأعين، حتى إنهم يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار، فالعبادات والفرائض تعيد بناء شخصية الإنسان، وتصفيها من كل شائبة، وتفتح له معارج معرفة الحق سبحانه، وتربطه بالحقائق الكونية الكبرى، وتضع بين يدى الإنسان موازين الاعتدال بين شئون عمارة الأرض، وصناعة الاقتصاد، بكل ما فى ذلك من أعمال، ودراسات، ومصانع، وشركات، وعمالة، وإدارة، وبين امتلاء القلوب وجلا وهيبة من الله، وتوقيرا لعظمته، وعمارة لبيوته فى الأرض.