بصراحة، نحن نعيش فى مجتمع يحتاج إلى مراجعة «ثقافته فى الأداء». وقد لا أبالغ إذا ذهبت إلى أن أى محاولة للإصلاح -سواء كان سياسياً أو اقتصادياً أو اجتماعياً- لن تنجح إذا لم نعدل أسلوبنا فى التفكير وإدارة الحياة. وذلك هو جوهر ما أقصده ب«ثقافة الأداء». هذه الثقافة التى نرث بعضاً من عناصرها ومكوناتها، ونكتسب بعضها الآخر من البيئة المحيطة بنا، لتلون بعد ذلك أسلوب تفكيرنا بألوان شتى من العبث، وتتدخل فى تحديد طريقة تعاملنا مع مواقف الحياة المختلفة بصورة تجعلنا أقرب إلى المسخ منا إلى البشر.. لن ينصلح حال هذا البلد إلا إذا علم أهله أنهم يفكرون بطريقة وأسلوب يحتاج المراجعة.. ومن خلال مقالات «أوضاع مقلوبة» سنتوقف من حين إلى آخر أمام مجموعة من الغرائب والطرائف التى تحكم ثقافة العقل المصرى. دعنا نبدأ بالطرفة الأولى كمثال على ما سأذهب إليه فى المقالات التالية، وكباكورة لتسليط الضوء على الأوضاع المقلوبة التى تستوجب منا مراجعة أسلوبنا فى التفكير حتى تعتدل وتستقيم. والطرفة هى «إصلاح التعليم»، لعلك تعلم إن كنت من المتابعين لهذا الموضوع أن هناك مقترحات عدة يسوقها البعض لإصلاح التعليم فى مصر، منها على سبيل المثال إلغاء مجانية التعليم فى ظل عجز الدولة عن تحمل الميزانيات الضخمة التى يتطلبها توفير التعليم لكل مواطن، ومنها تطوير المقررات ونظم التعليم ولا ضير فى هذا السياق من أن نرسل الوفود والبعثات كى تطلع على أحدث ما وصل إليه العلم فى بناء المقررات ونظم التعليم فى أوروبا والدول المتقدمة، ولا يوجد مانع أن يعيد من أرسلناه إلى بلاد الخواجات التأكيد على غياب موضوع المجانية عن مدارس وجامعات الغرب. هذا أسلوب فى التفكير يمكن وصفه ب«الأعور». «التفكير الأعور» يعنى ببساطة رؤية نصف الحقيقة والتعامى عن الجزء الثانى منها. فمن يرد مشكلة التعليم إلى المجانية وتخلف المقررات ونظم التعليم، يتعامى عن أن لدينا مدارس لغات خاصة ومدارس أجنبية يدفع فيها الآباء ألوفا مؤلفة من الجنيهات كمصروفات، ولا يتوانى أصحاب هذه المدارس عن استيراد المقررات -خصوصاً مقررات اللغات الأجنبية- من الخارج، وتتبع فى تخطيطها وأسلوب تعليمها نفس النظم الموجودة فى أوروبا والدول المتقدمة، ومع ذلك تفشل فى تقديم خدمة تعليمية حقيقية، ولا يختلف حال ولى الأمر بهذه المدارس عن ولى أمر تلاميذ المدارس المجانية فى استنزاف جيبه فى الدروس الخصوصية والمجموعات الدراسية واستخدام المذكرات فى تبليع التلميذ المادة التعليمية، وتعويده على أساليب منمطة فى الإجابة على الأسئلة ليخرج من المدرسة متمتعاً بكل مؤهلات التخلف «بس بالإنجليزى أو بالفرنساوى أو الألمانى». المشكلة ليست فى المجانية أو المقررات أو نظم الامتحانات، بل فى وجود معادلة تواطؤ بين طرفى العملية التعليمية فى مصر: (الطالب والأستاذ)، ترتكز على رفض الطالب لفكرة «العلام»، وزهد الأستاذ فى القيام بدوره فى «التعليم». يوم أن يكون للعلم «قيمة» ويكون لدى المجتمع «طلب حقيقى» عليه، سوف ينصلح حال التعليم.. وسوف نظل هكذا طالما كان الطلب على «الجهل» و«الجهالات» و«الجهلة» أعلى!