الجميع فى مصر يتحدث عن الحقوق ولا أحد يحترمها؛ وكل فريق يتحدث عن حقوقه هو وينسى حقوق الآخرين. وكل فرد يتحدث عن حقه فى الحرية، لكنه يقصد حقه فى الفوضى! هذه هى معضلتنا. وبعض الإعلاميين والثوار يتحدثون عن الحق فى التعبير بينما يقصدون حق القذف والتشهير وانتهاك الأعراض: سواء كانت الأعراض بالمعنى المباشر للكلمة أو الأعراض بمعناها العام (الأعراض السياسية والمهنية)؛ فعرض الإنسان ليس فقط عرضه بالمعنى الجنسى، ولكن أيضاً عرضه بمعنى شرفه العام المتعلق بسمعته ككل. فحرية التعبير التليفزيونى أو الإذاعى وحرية الصحافة لا تعطى لأحد حق إطلاق الأكاذيب أو الشائعات الضارة بسمعة طرف آخر. ويطلق على مثل هذا التعبير «قذفاً» إذا صدر لفظاً، و«تشهيراً» إذا صدر مكتوبا. أما دعاة الاستبداد فيريدون بحجة الفوضى نزع كل الحقوق والحريات، والعودة مجددا لحكم ديكتاتورى يحكم «شعبا يخاف ولا يختشى»! وإذا كانت الأنظمة الفاشية والاستبدادية لا تلقى بالاً للحرية، فلا يقل خطأ عنها دعاة الفوضى باسم الحرية؛ فكلا الفريقين آثم، وكلاهما يُضيّع مصر ويضيّع نفسه. بينما الحل بسيط، وهو يا سادة: الفوضى حلها تطبيق القانون بحسم وعدالة ناجزة دون تراخٍ ودون ارتعاش. فمأساتنا أننا نتأرجح دوما بين الاستبداد والفوضى.. مرة نعيش تحت القهر، ومرة نعيش تحت الفوضى، ولا نعرف المنطقة الوسط (الحرية المسئولة الملتزمة بالقانون). ولذلك فليس بديل الفوضى هو العودة للاستبداد ولا الدولة البوليسية، بل هو الالتزام بالقانون من الناس، والالتزام بتطبيق القانون على الجميع من الحكومة. إن الحرية فى الإسلام مقدسة، وقد تنبه إلى ذلك الشيخ المباركفورى فى تكملته على «المجموع شرح المهذب للنووى»، حيث اعتبر الحرية الشخصية من أعظم مقاصد الشريعة. وقد أكد على هذا المقصد الفقيه التونسى الطاهر بن عاشور، وغيره من الأصوليين والفقهاء الحقيقيين؛ فالحرية وإن لم يذكرها الأصوليون من جملة الضرورات الخمس، فهى عنوان كل ضرورة من هذه الضرورات. لكنها ليست حرية مطلقة، بل حرية منضبطة ومسئولة تعطى حقوقا فى مقابل واجبات، مثل واجب المواطن أن يدفع ضرائب، ويلتزم بقواعد العمل، ويلتزم بالدور فى الحصول على الخدمات، وألا يعطل مصالح الناس أو يضر بأى مظهر من مظاهر الحياة. فالقانون لا يسحب حرية الفرد، مثلما يحدث فى النظم الاستبدادية، بل ينظمها من أجل كف الضرر عن الآخر، ويضع سقفا لحرية الآخر من أجل كف ضرره عن الفرد، أى أن القانون هو من أجل تحقيق حرية متساوية لكل طرف، ومن أجل الحفاظ على النظام، وسير الأمور بيسر ودون ضرر؛ فعندما يتعذر على سيارتين فى الوقت نفسه عبور ملتقى طرق، دون اصطدام، فإن النظام يحدد أى اتجاه تكون للسيارة القادمة منه الأولوية فى أن تمر أولاً. ويمنع القانون الفرد من استخدام حريته عندما تضر بالمصالح المشروعة للآخرين أو سلامتهم أو صحتهم أو حتى رفاهيتهم، فحرية الكلام حق، لكنها ليست مطلقة فى قاعات الدرس، ولا فى الصلوات، كما أن الحق فى «حرية الكلام» لا يعنى الحق فى «الصراخ»، كأن يصيح فرد قائلاً «حريق» «قنبلة» فى مكان مزدحم إذا لم يشب حريق أو توجد قنبلة بالفعل. وحرية التجارة لا تعطى لأحد الحرية فى أن يغش الآخرين. وحق التصرف فى الملكية الخاصة للعقارات لا يعطى لأصحابها حق التعدى على حرم الطريق أو حقوق الجار. وحرية أصحاب المصانع فى إدارة مصانعهم لا تبيح لهم تلويث الجو أو إلقاء النفايات الصناعية فى الطريق العام أو المياه أو غير المكان المخصص لذلك. لكن فى مصر المحروسة «الحرية» تعنى أن كل شىء مباح؛ فالمصرى دوما متفرد وله إبداعه الخاص! وهو أيضاً ينسى أن الحرية التزام ومسئولية (لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت). إن المعاملة بالمثل هى المبدأ العادل، والقانون حق على الجميع، والفعل الذى أقوم به يشرع للآخرين أن يفعلوا مثله، فإذا كان من حقى قطع الطريق فمن حق الجميع أن يفعلوا ذلك. والتظاهر حق أصيل، لكن إذا كان من حقى كمتظاهر أن أعطل مصالح الشعب وأعتدى على ممتلكات الآخرين، فمن حقهم أيضاً عندما يتظاهرون أن يعتدوا على ممتلكاتى ومصالحى العامة. وهنا تضيع الدولة، ويضيع الأمن القومى، ويتحول البلد إلى عشوائية وصراخ هيستيرى! ولا أدرى كيف يبيح البعض لأنفسهم، عند الاختلاف السياسى بين أبناء الوطن الواحد، حقوقا لا يبيحها الرسول (صلى الله عليه وسلم) فى حالة الحرب ضد الأعداء الذين يعتدون على الوطن؛ فيعطون لأنفسهم حق السحل والتنكيل، والاعتداء على المنشآت، وقطع الطريق! ومن سخرية زماننا أن نطالب ونرجو «فرقاء السياسة» أن يلتزموا بقواعد الحرب! إن الجهاد فرض كفاية أو فرض عين (حسب طبيعة الحرب)، لكنه يقف عند حدود عدم الإضرار بالمصلحة العامة أو انتهاك حقوق الإنسان أو الحيوان أو الجماد. فقد أوصى الصديق أبوبكر جنوده قبل فتح بلاد الشام (12 هجرية) بقوله: «لا تخونوا، ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا طفلاً صغيراً، ولا شيخاً كبيراً ولا امرأة، ولا تعقروا نخلاً ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاةً ولا بقرة ولا بعيراً إلا لمأكلة، وسوف تمرون بأقوام قد فرغوا أنفسهم فى الصوامع؛ فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له». وقال الرسول (صلى الله عليه وسلم) فى حديث واضح: «من ضيق منزلا، أو قطع طريقا، أو آذى مؤمنا، فلا جهاد له» (صححه الألبانى، الجامع 6378). فهل يمكن أن ينصت المصريون لثوان لحديث سيد الخلق (صلى الله عليه وسلم) حتى يعرفوا موقعهم الحقيقى؟ وهل يمكن أن ينصت أصحاب المحلات والباعة وقائدو السيارات والثوار الأحرار لقول آخر للمصطفى عندما سأله بعض الصحابة الكرام: وما حق الطريق يا رسول الله؟ قال: «غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام، والأمر بالمعروف، والنهى عن المنكر» (رواه البخارى). رحمتك يا رب.