وكأن الفساد، لا قدّر الله، خصيصة خِلقية فى مصر المنهوبة دوماً، لا فكاك منها. تتعاقب الأنظمة الاقتصادية والسياسية متباينة التوجه العقيدى والسياسى ولكن تحمى كلها الفساد، أو على الأقل تتراخى عن مكافحته بفعالية وصولاً للقضاء عليه تحقيقاً لغايات الثورة الشعبية العظيمة فى الحكم الديمقراطى الصالح والكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية للجميع فى مصر. وعلى وجه الخصوص، تقاعست جميع حكومات ما بعد الثورة عن المطالبة الجادة باستعادة أموال مصر التى نهبها أساطين الحكم التسلطى الفاسد عبر العصور وعن محاكمتهم محاكمات ناجزة، بل أبدت جميع هذه الحكومات استعداداً للتصالح مع المجرمين ناهبى البلد والشعب لقاء فتات مما نهبوا من دم الشعب وعرقه. إن الفساد الفاجر كجبال الجليد لا نرى منها إلا القمم الطافية شديدة الصغر مقارنة بباقيها المخفى تحت سطح الماء. والمؤكد أننا لم نتعرف على الحجم الحقيقى لفساد نظام محمد حسنى مبارك، وما تلاه من أنظمة حكم بعد الثورة، حتى الآن. فمن أخص خصائص الحكم التسلطى العتامة والتدليس على الشعب بمنع الحقائق من التداول. ولكن كل يوم تظهر لنا مؤشرات على أنه لا بد كان هائلاً ومتفشياً فى جنبات المجتمع إلى حد الانتشار السرطانى. رأس الدولة مبارك كان شريك سارق مصر الأكبر حسين سالم. وقد سُمح له بالهروب من مصر بعد تنحية الطاغية المخلوع بأيام، فى ظل حكم المجلس الأعلى للقوات المسلحة ووزارة أحمد شفيق محملاً بمئات الملاين نقداً على طائرته الخاصة، وكان على مصر أن تخوض معارك قضائية لم تنجح لاستعادته من إسبانيا حتى بعد أن حكم عليه القضاء المصرى. والآن يتردد أنه تجرى مفاوضات للتصالح معه يشارك فيها محمد سليم العوا أحد وسطاء الإخوان للتصالح مع الحكومة المؤقتة! وفى أيام الطاغية المخلوع كانت المادة (133) من قانون البنوك تسمح بتبرئة ساحة الذين استولوا بالفعل على المال العام، والذين تربحوا بدون وجه حق أو الذين قدموا مستندات مزورة أو تلاعبوا فى الأوراق من أجل رفع قيمة الضمانات المقدمة لهم من البنوك حتى لو ثبتت عليهم التهمة بحكم قضائى. بل وصل الأمر لأن يتم تبرئتهم حتى لو كان قد جرى حبسهم بالفعل، وذلك بمجرد ردهم للأموال التى استولوا عليها بدون وجه حق إلى خزانة البنوك. ونعلم الآن أن محمد مرسى أفرج عن الإرهابيين وتجار السلاح والمخدرات بقرارات جمهورية فورية بينما كان يلاحق النشطاء من الشباب فى محاولة فاشلة لإخماد الثورة الشعبية العظيمة، وأن وزراءه اقترفوا كثيراً من أشكال الفساد المالى، ولكن لم يظهر كل فسادهم بعد. ومن أسوأ ما فعل رئيس وزرائه المتظاهر بالتقى والورع، استحداث تعديلات قانونية تقضى بالتسامح مع الفساد، مثل التعديل الذى أدخله مجلس الوزراء، باقتراح من مندوب مبيعات التليفون المحمول الذى عينوه وزيراً للاستثمار، على قانون حوافز الاستثمار رقم 8 لعام 1997، والذى يسمح بالتصالح مع المستثمرين الذين صدر ضدهم أحكام غيابية بالإدانة. أو ذلك التعديل الذى أقره مجلس الوزراء فى عهد الرئيس المعزول فى مايو الماضى. والذى جرى تفصيله بهدف التهرب من تنفيذ الأحكام الصادرة لصالح عودة شركات قطاع الأعمال العام إلى الدولة. والآن نجد وزير المالية فى الحكم المؤقت الراهن ييسّر للمتهربين من دفع الضرائب، ولو كانوا من مهربى الأسلحة والمخدرات، سرقة الشعب على حساب الخزانة الخاوية؛ حيث أصدر تعليماته لأجهزة الوزارة بالتصالح مع المتهمين بالتهرب من الضرائب، حتى لو كانوا قد تم تحويلهم للنيابة. والحجة فى ذلك تشجيع رجال الأعمال على تسديد حق الدولة. ولكن الرسالة واضحة، فمن ينجح فى الإفلات من دفع الضرائب المستحقة للحكومة فليفعل فلا يقابلهم من عقوبة إن ضُبطوا إلا تسديد الضرائب التى حاولوا سرقتها أصلاً. وبالمنطق السائد فإن من يدفع الضرائب يصبح مغفلاً وهكذا يشجع السيد الوزير الفساد ويقوّض حكم القانون ويتنازل عن أحد أهم موارد الدولة. وليس فى هذا أى تشجيع على الاستثمار الجاد والمفيد. وإن شجع أحداً على الاستثمار فسيكون من عيّنة اللصوص النهّابة الذين سيعيثون فى الاقتصاد فساداً. فى معنى الفساد نقترح تعريف الفساد بأنه «الاكتساب غير المشروع -أو من دون وجه حق- لأى من عنصرى القوة فى المجتمع، السلطة السياسية والثروة بما يشمل الفساد المالى والسياسى معاً. ووفق هذا التعريف، يستحيل أن يستقيم حال مجتمع يستشرى فيه الفساد، ناهيك عن نيل غايات الثورة الشعبية العظيمة فى الحرية والعدل والكرامة الإنسانية للجميع. وعلى هذا فإن مرض الفساد يمكن أن يصيب من حيث المبدأ جميع قطاعات المجتمع، لدرجة أو أخرى، كما تشهد على ذلك أحوال مصر حالياً. على صعيد الدولة، قد ينخر الفساد فى الجهاز التنفيذى (بما فى ذلك أجهزة الأمن والخدمات، وحتى مؤسسات الرقابة والمحاسبة والمحليات)، ويمكن أن يطال المؤسسة التشريعية، والطامة الكبرى أن يصل الفساد إلى مؤسسة القضاء. وفى ظل فساد البنية المؤسسية للبلدان التى ترزح تحت أنظمة حكم فاسدة ومستبدة، والسمتان لصيقتان، قد يطال الفساد مؤسسات المجتمع المدنى (بالمعنى الواسع المتضمن لمنظمات المجتمعين المدنى والسياسى). وهنا يبدو التناقض واضحاً بين الدور الطليعى المنشود لمنظمات المجتمع المدنى، إن صلحت، فى قيادة الإصلاح السياسى ومسيرة التنمية الإنسانية، وواقع المجتمع المدنى فى البلدان العربية فى الوقت الراهن مما يدعو كثرة من المحللين للتساؤل عن إمكان الاعتماد على المجتمع المدنى الحالى لقيادة الإصلاح فى الوطن العربى. ولا يسلم القطاع العائلى من الفساد شاملاً التهرب من الضرائب، وما يسمى أحياناً الفساد الصغير الذى يقوم على توسل العصبية والوساطة والرشوة لقضاء المصالح.