إنها قلوب تتوجه إلى بيت الله الحرام الذى هو محل نظر الله، فيه الصلاة بمائة ألف صلاة، وفيه يستجاب الدعاء، من تعلق بأستاره أو وقف عند ملتزمه فإنه يكون مجاب الدعاء، بيتٌ النظر إليه عبادة، البعض يعتقد أنها حجارة تطوف حولها أجساد.. لا؛ إذ ليس المقصود طواف جسمك بالبيت، بل المقصود طواف قلبك بذكر رب البيت، حتى لا تبتدئ الذكر إلا منه ولا تختم إلا به، ألا تعلم أن الطائفين متشبهين بالملائكة المقربين الحافِّين حول العرش الطائفين حوله. إنها قلوب تتعلق برب الأكوان وخالقها، المسلم يتعلق بها وفى ذهنه أن «النظر إليها عبادة»، وفيها الحجر الأسود الذى هو «ياقوتة من يواقيت الجنة، وإنه يُبعث يوم القيامة له عينان ولسان ينطق به يشهد لكل من استلمه بحق وصدق». إنه استحضار لعظمة البيت فى القلب كأنك تشاهد رب البيت لشدة تعظيمه إياه، وتشكره على تبليغه للزائرين هذه الرتبة، حيث شاء الله أن يُلحق الزائرين بزمرة الوافدين عليه، آملين أن ينصبوا فى القيامة إلى جهة الجنة فيدخلوها هم و(مَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ). ثم انظر إلى الحكمة الجليلة.. سبعة أشواط من الطواف، وسبعة من السعى بين الصفا والمروة، وسبعة فى رمى الجمرات، وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات، والبحر يمده من بعده سبعة أبحر، سباعية الكون، حتى تشعر بالأكوان من حولك، تتلطف بها، وتتعايش معها، وتسعى لخدمتها، ثم دعاك إلى تقبيل الحجر الأسود الذى هو من جنس الجمادات، حتى تكتمل المنظومة الإلهية المعجزة. أدبٌ مع الجمادات حيث تقبيل الحجر الأسود، أدبٌ مع النباتات حيث نُهى عن قطع الأشجار فى الحرم، أدبٌ مع الحيوان(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ)، أدبٌ مع الإنسان (فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِى الْحَجِّ). كعبة مشرَّفة لا يطوف حولها إلا المسلمون، لكنها تُعلِّم المسلمين احترام الإنسان أياً كان جنسه أو دينه، لو فهم الحاج ما فى البيت من أسرار وما فى زيارة رسول الله من أنوار لخرج من هناك وقد امتلأ قلبه بالتواضع والرحمة والكرم والإيثار، وحفظ البيئة، وحقوق الأكوان، ومحبة العمران والمؤسسات لا تخريبها، واحترام الإنسان لا سفك دمائه، والانفتاح على العالم لا الاصطدام معه. البيت بيت المسلمين، لكن قيم البيت ومُثُلَه ومقاصده وأخلاقياته تتسع للمسلم، والمسيحى، والبوذى، والاشتراكى، والعلمانى، والليبرالى، واليسارى وسائر الملل والنحل، لا يشعر أحد فى شئون المعاملة أنه مكرَه ولا مكروه ولا منبوذ، لأن الحج رمزية للإسلام بكل اتساعه وشموله وسماحته. وهناك على عرفات الله مشهد آخر جليل من ازدحام الخلق وارتفاع الأصوات واختلاف اللغات.. عرصات القيامة.. اجتماع الأمم.. لبيك اللهم لبيك.. لبيك لا شريك لك لبيك.. الموقف شريف، والرحمة تصل من حضرة الجلال إلى كافة الخلق بواسطة القلوب العزيزة من أوتاد الأرض، فإذا اجتمعت هممهم، وتجردت للضراعة والابتهال قلوبهم، وارتفعت إلى الله أيديهم وامتدت إلى أعناقهم، وشخصت نحو السماء أبصارهم مجتمعين بهمة واحدة على طلب الرحمة والفضل، فلا تظنن أن الله يخيب آمالهم، لأن من أعظم الذنوب أن يحضر عرفات أو يطوف بالكعبة ويظن أن الله لن يغفر له، أو أن يقف بجوار مقام سيد الخلق وآل بيته مبتهلاً خاشعاً تائباً متضرعاً مصلياً عليهم ويظن أن جنة الله ورحمته واستجابته لدعائه بعيدة عنه.. لذلك فليقل متضرعاً: اللهم احرس مصر، واحفظها من كل سوء ومكروه، وأطفئ جمرة الفتنة، وشرارة الفوضى ونار الاصطدام، ووحد كلمتها يا رب العالمين.