«الله يخليك شوف لنا حل لمشكلة الميّه، أصل إحنا بنتعب أوى كل يوم عشان نلاقى حتة نملى منها، بنطلع الدور السادس واحنا صايمين، وأنا واخواتى بنفضل نملى ف ميه م الصبح لحد العصر، وبالليل بنكون تعبنا ع الآخر».. كلمات استعطاف، قالها لنا الطفل محمد درويش ذو ال10 أعوام، بينما كان يسير بصحبة أختيه «إسراء» و«آلاء» فى أحد شوارع «صفط اللبن» بالجيزة، متجهاً إلى مكان غير معلوم، بحثاً عن مياه يروى بها ظمأ أسرته عندما يحين موعد الإفطار. لم يهنأ هذا الطفل هو وأقرانه فى تلك المنطقة باللعب واللهو بزينة رمضان، وفضل الاستجابة لتوسلات أمه بالتخلى عن اللعب، والبحث عن الماء، فى ظل مأساة انقطاع المياه عن المنطقة باستمرار. مشكلة العطش فى المنطقة ليست وليدة اللحظة، لكنها كما يقول الأهالى تمتد إلى أشهر مضت. وعلى الرغم من شكاواهم المتكررة من انقطاع المياه، إلا أن المسئولين فى محافظة الجيزة لم يتحركوا إلا بعد اعتصام الأهالى أمام ديوان عام المحافظة وقطعهم الطريق الدائرى، حينها تذكر المحافظ الدكتور على عبدالرحمن و«الشركة القابضة لمياه الشرب» أن هناك خزان مياه فى صفط اللبن تنقصه بعض التشطيبات، وكان مقرراً أن يدخل الخدمة منذ أكثر من عام، لكن هذا لم يحدث. «الوطن» عاشت معاناة أهالى المنطقة فى رحلة البحث عن «شربة ماء»، وخاصة فى شوارع «الثلاجة وكامل خليل وعمر بن الخطاب وإبراهيم عيسى» أكثر الشوارع عطشاً. وفى زاوية صغيرة بشارع «كامل خليل الحوطى»، تجمع عدد كبير من السيدات والفتيات والأطفال أمام المنزل رقم 18 الذى يخرج صاحبه من بوابته خرطوم مياه صغيراً، يملأ منه هذا الجمع «جراكن وجرادل وزجاجات». صاحب هذا البيت هو أشهر شخصية فى المنطقة، ينادونه «أبوبسام»، واسمه نجاح جاد سنجاب (55 عاماً)، مبيض محارة متقاعد، له 7 أولاد، ولا يعمل منذ فترة لكبر سنه ومرضه، وهو يقف عاجزاً أمام توسلات سيدات الحى اللائى يحضرن إلى بيته صباحاً ومساء، يطلبن منه «شوية ميه». لكن الرجل الطيب لا يرفض لهم طلباً رغم ما يسببونه له من إزعاج دائم، بسبب خناقات «الستات» المتكررة. يقول «أبو بسام»: «الموتور بتاعنا اتحرق مرتين، ولسه مشترى واحد جديد ب580 جنيه امبارح، وبادفع تمن الميه اللى الناس بتاخدها من عندى مجاناً، ما بقدرش أقولهم لأ، دول برضه غلابة زينا. ولا أعرف سبب عدم انقطاع المياه عن بيتى مثل الباقين، وأقر أن هذه نعمة من عند الله، لكنى أشعر - أحياناً - بسبب ما أتعرض له يومياً من منغصات أنها نقمة، فبيتنا لا يعرف للنوم طعماً بسبب هذا الإزعاج. تصوّر، إمبارح حضرت سيدة فى الثانية صباحاً، وطلبت منى أن أملأ لها زجاجة مياه عشان تعرف تتسحر». ويضيف: «بسبب انقطاع المياه منذ فترة، لجأ الأهالى هنا إلى الطلمبات الحبشية، غير أن طعمها مالح جداً بحيث لا تصلح للشرب أو الطهى، لذلك يستخدمونها فى غسيل الملابس والأوانى، ثم يحضرون إلى هنا عشان يملوا شوية ميه يعرفوا يشربوها، أنا إمبارح مليت أكتر من 150 زجاجة للناس، بعد ما سابوهم فى مدخل البيت وروّحوا بالليل، وقعدت لحد الساعة 3 الفجر أملى فيهم». ولا حديث للسيدات أو الرجال هنا إلا عن أزمة المياه، الكل يشكو مر الشكوى، وتتعالى أصوات الجميع، ومن بين تلك الأصوات برز صوت سيدة مسنة اسمها حليمة إمبابى على (75 عاماً) قالت «يا ابنى الميه مقطوعة عن صفط من سنة ومش بلاقى حد يملا لى، فباخد الجراكن وأروح عند أبوبسام وأقعد بالساعة جنب الحريم، والراجل بيتخانق عشان يخلينى أملا وما اقعدش كتير، بسبب كبر سنى وأنا بكون صايمة». وتتابع الحاجة «حليمة»، بعد صمت قصير «دقينا طلمبة على عمق 23 متر، لكنها باظت ويحتاج إصلاحها أكثر من 1000 جنيه، عشان كدا بنملا كل حاجتنا من بره، وزى ما انت شايف طالع عينينا، ومع ذلك يأتى إلينا محصلون من شركة المياه ويطلبون بكل «بجاحة» دفع الفاتورة، وأنا يابنى دفعت 300 جنيه رغم إن الميه ما بتجيش، ولو جت ساعات بتكون مية مجارى، لونها عكر». أما إنعام محمود فهى سيدة أربعينية تشكو من ارتفاع سعر المياه التى لا تأتى أصلاً، مؤكدة أنها سددت 800 جنيه لشركة مياه الشرب عن شقة واحدة تسكن فيها هى وزوجها وأبناؤها بالإيجار، مع إن المياه مقطوعة منذ سنة، وأصرت، للتأكيد على صحة كلامها، أن تُرينا إيصال الدفع. وانقطاع المياه عن المنطقة بصفة دائمة لا يقتصر على البيوت فقط، بل طال أيضاً مبانى حكومية، منها الوحدة الصحية، حيث يقول محمود محمد، موظف بالوحدة «المياه انقطعت عنا منذ شهر، ونضطر إلى ملء الجراكن من أماكن متفرقة، لأن الأجهزة والأدوات الطبية تحتاج إلى المياه بشكل مستمر». وفى أحد شوارع المنطقة، قابلنا ربيع الشافعى، مدير عام تربية وتعليم سابق، ورئيس اللجنة الشعبية بالمنطقة، فقال لنا «عدد سكان صفط اللبن يبلغ 900 ألف نسمة، وهذا العدد الكبير من السكان محروم من المياه. وبعد أن اعتصمنا أمام المحافظة، وعدنا المحافظ بحل المشكلة خلال 3 أيام، ومر على وعده الآن أكثر من 10 أيام ولم تُحل المشكلة، لذلك لجأنا - مضطرين - إلى قطع الطريق الدائرى حتى يشعر المسئولون بنا، لكننا فضضنا الاعتصام لدواعٍ إنسانية، غير أننا سنقوم بقطعه من جديد إذا لم تحل المشكلة». ويضيف «الشافعى» أن «جذور الأزمة بدأت منذ 3 أعوام تقريباً، وجاءت بالتزامن مع الانتهاء من تشطيبات محور صفط اللبن، إذ كان مقرراً أن يتم الانتهاء من خزان ومحطة المياه منذ فترة، لكن التكاسل والتراخى أوصلنا إلى هذه الحالة، ولم يسمعنا أحد إلا بعد اعتصامنا أمام المحافظة وقطع «الدائرى». وفى تقديرى أن المحافظ هو سبب المشكلة، لأنه لا يستمع لشكاوانا، بل يحاول دائماً تهدئتنا بأن «المشكلة ستحل قريباً»، ودائماً لا جديد، وأخشى أن تستمر الأزمة بعد افتتاح الخزان لأنه سيستمد مياهه من خطين، الأول من محطة الهرم، والثانى من محطة الوراق، والضغط فيهما أصلاً ضعيف جداً، بدليل أن هذين الخطين هما جهة الإمداد الوحيدة للمياه الواصلة إلى صفط اللبن، وسيعتمد الخزان عليهما مستقبلاً، فكيف يحدث ذلك؟». ويصمت الرجل قليلاً، ثم يتابع «الحقيقة أن وعود المسئولين كثيرة ولا تنتهى، لكن العبرة بالتنفيذ، فالمنطقة تعانى من التهميش فى كل شىء، وأول مشكلة - بعد المياه - هى القمامة، التى لا يتم رفعها من الشوارع إلا مرة واحدة فى الصباح، رغم أن المنطقة كثيفة السكان، بالإضافة إلى أن أسفل كوبرى المحور المار فوق صفط اللبن غير مضاء، وتحدث تحته جرائم كثيرة أقلها تعاطى المخدرات، لكن يبدو أن أهم حاجة عند السادة المسئولين هى احتياجات الكوبرى من فوق، وأما الناس اللى تحت فقد سقطوا من حساباتهم».