بداية، أنوه للقارئ الكريم بأن كاتب هذه السطور أستاذ جامعى غير حزبى وليس له أى مصلحة فى مجلس الشورى أو مجلس الشعب بأى شكل كان، ولكن وجدت أن النقاش العام فى مصر يشوبه استقطاب بين نخبة سياسية وحزبية لم تكن جزءاً من الحكم السابق أو الأسبق فأصبحت شديدة العداء لمؤسساته وتصر على تذكير الناس بالظل الثقيل والأداء السيئ فعلاً لأغلب تلك المؤسسات، وفى مقدمتها مجلس الشورى.. ولكن السؤال هو: هل العيب فى المجلس أم فى من كان جالساً فيه؟ وهنا أتذكر بيتاً لأمير الشعراء وجهه للناخبين منذ أول انتخابات «ديمقراطية» فى مصر عام 1924، فقال: «دار النيابة قد صفت أرائكها.. لا تُجلسوا فوقها الأحجار والخشبا» وصدقت يا شوقى، فكم كان أداء بعض أعضاء هذا «الشورى» متحجراً، وكم كان منهم بارد كالخشب الذى التصق بالخشب الذى يجلس فوقه ولم يعد موصلاً جيداً للحرارة، بين الشارع والمشرع!! نعم رأينا هذا وذاك، ولكن -كما قال «شوقى»- العيب أيضاً فى مَن انتخب هذا الحجر والخشب وليس فى المجلس الذى احتواهم.. إذن دعونا -لمصر وديمقراطيتها العاقلة المأمولة- أن نفصل بين مجلس الشورى كمؤسسة تشريعية وبين أداء من شغله والإحباط الذى تركه لنا من بعده، وننظر للموضوع بعقل وعقلانية.. هل مصر تحتاج لمجلسين أم مجلس واحد؟ وبدلاً من القول برأى واحد والترويج له، تعالوا نحسبها بمقاييس النفع والضرر إذا كان لدينا فقط مجلس الشعب، وسنرى أهمية وجود مجلس «موازن» له. أولاً، يبدو أن الحكومة قررت مسبقاً اتباع النظام الفردى، حتى قبل أن تنتهى لجنة العشرة من المقترحات، وأعتقد أن الحكومة ستدخل بثقلها فى لجنة الخمسين لإقرار النظام الفردى، خاصة أن رئيس الوزراء وحده بيده تعيين عشرين فى المائة من أعضاء لجنة الخمسين. وبرغم أن النص المقترح للدستور المعدل لا يقول بالنظام الفردى وإنما يترك الأمر للقانون لتحديده، فإن الحكومة وأدواتها تعمل بكثافة فى الإعلام خصوصاً على إقناع الناس، كما يؤكد أغلب المؤيدين أن الفردى ضرورى لتحجيم الإسلاميين وربما لمنع أى نفوذ مؤثر لهم فى البرلمان بما يعنى ضمان الأغلبية فى يد غير الإخوان أو السلفيين.. هكذا يقولون! فإذا أضفنا لذلك «القرار الاستراتيجى» باتباع الفردى الاتجاه شبه الأكيد لإلغاء الشورى، فمعنى ذلك أمران، الأول أن مجلس الشعب سيضع القوانين وحده، وأنه وحده سيحدد مصير الحكومة، وبما أنه سيتكون من أفراد (مستقلين) وليس من كتل حزبية فلن تكون به أغلبية برلمانية واضحة أو مستقرة، وبالتالى سوف يغير العضو مواقفه حسب «تفاهماته» مع الحكومة!! وبما أن الحكومة هى الطرف الأقوى الذى لديه الموارد والسلطة فإنها هى التى تساوم العضو على بقائه وإمداده بما يلزم للحفاظ على شعبيته فى الدائرة، أى تؤكد وضعيته كنائب خدمات، وبالتالى لن تخشى مجلس الشعب فعليا، بل على العكس تستطيع هى التلاعب به، وتمرير ما تريده فى هذا المجلس الوحيد، دون خوض أى محاسبة حقيقية أو مساءلة عن برامجها وسياساتها أو منافسة من أحزاب أخرى تنشد الوصول للسلطة.. باختصار يمكن القول أن: الفردى+ إلغاء الشورى= حكومة مسيطرة ومجلس شعب به نواب خدمات. أما الزاوية الثانية فى الموضوع، فهى علاقة مجلس الشورى بالاستقرار السياسى والكفاءة التشريعية، ولا أقصد أن الأداء السابق كان يحقق هذا، بل أعتقد أنه يمكن مستقبلاً أن يحقق ذلك، لأن فكرة المجلسين فى ذاتها تساعد كثيراً على ترويض «الجموح» المعتاد فى المجلس الوحيد، لأن عضو مجلس الشعب يهمه أولاً إرضاء الدائرة لاسيما لو كان النظام الانتخابى بالفردى، وبالتالى قد لا يهتم بعمل المجلس أو بالتشريع مما يجعل الحكومة أكثر استفراداً بالحكم، بحيث قد نجد جلسة مناقشة الموازنة خاوية إلا من بضعة أعضاء، لاسيما لو كانت مسائية، كما كنا نرى، وعندما يحدث ذلك لن يستطيع أحد الاعتراض على قرار مجلس الشعب حتى لو صدر بدون حضور أغلبية أعضائه لأنه سيد قراره، وقراره نهائى ولا يعرض على أى مجلس آخر لمناقشته أو مراجعته. ولهذا، فنظام المجلسين يضمن حتماً مراجعة التشريع مرة أخرى، حتى لو استغرق بضعة أيام إضافية، فإن نفعه أكبر من ضرره كثيراً، خاصة لو أصبح التشريع النهائى فى يد نواب الخدمات. والزاوية الثالثة فى أهمية المجلسين أن تركيب الشورى يجب أن يكون بطريقة تختلف عن تركيب الشعب، حتى يكمل كل منهما الآخر. وبعض الدول تجعل المجلس الآخر معيناً بالكامل ومنها مهد النظام البرلمانى إنجلترا ومنها أيضاً الأردن والبحرين، وبعض الدول تجعله منتخباً بالكامل ومنها مهد النظام الرئاسى أمريكا وأغلب الدول الصناعية والصاعدة كالهند وجنوب أفريقيا والنمور الآسيوية.. ولكن خبرتنا مع نظام المجلسين فى مصر لم تكن واضحة فى ذلك، حيث كان ولا يزال مجلس الشورى خليطاً بين الانتخاب والتعيين، ولا يزال نظامه الانتخابى كنظام مجلس الشعب مما جعله أداة إضافية فى يد الأغلبية التى تسيطر على مجلس الشعب بدلاً من أن توازنه و«تفرمل» جموحه المحتمل! ولهذا، فإن مصر تحتاج لمجلس الشورى، بنظام انتخابى مختلف عن مجلس الشعب، وبصلاحيات تشريعية تجعله يوازن ديكتاتورية الأغلبية بمجلس الشعب، ويقوى الأحزاب السياسية، أى يعتمد فى تشكيله على الانتخاب بالقوائم الحزبية، مقابل النظام الفردى فى مجلس الشعب. أما من يضع فى صدارة النقاش أموراً مثل تكلفة عمل مجلس الشورى أو مستقبل الموظفين به (وهو نحو ألف ومائة شخص) أو أنه سيعطل إصدار التشريعات.. فكلها مردود عليها ويمكن علاجها بسهولة، دون أن نفقد مزايا المجلسين أو أن نعرض مصر لخطر ديكتاتورية الحكومة وعودة نواب الخدمات!!