من أكثر الأعمال الفنية التى تأثرت بها فى حياتى كان فيلم فهرينهايت 451، فى ستينات القرن الماضى، الذى أخرجه الفرنسى فرانسوا تروفو، أحد أكبر مخرجى تاريخ السينما، والمأخوذ عن رواية للكاتب الأمريكى راى برادبرى صدرت فى أوائل خمسينات القرن الماضى.. تقوم الأحداث على العداء المستحكم بين السلطة الاستبدادية، بكل من يعمل فى فلكها، ويسخر كافة الحيل والكذب والخديعة، لإخضاع الشعوب عبر ترويعها، مثل حقبة المكارثية فى الولاياتالمتحدةالأمريكية، والأهم بتغييب العقل والوعى، باستخدام «قيم» المجتمع الاستهلاكى، بحيث تتركز حياة المرء على ما يستهلكه اليوم وما سوف يستهلكه غدا وفق ما تبثه وسائل الدعاية الحكومية، وبالتالى لا يُتاح للمجتمع التفكير فى نمط الحياة المفروض عليه بحيث يغرق أكثر فأكثر فى فرديته وحتى يصل إلى: أنا ومن بعدى الطوفان! وكان برادبرى فى الخامسة والعشرين عندما ألقت بلاده بقنبلتى هيروشيما ونجازاكى باليابان وذهب ضحيتهما أكثر من مليون إنسان، عدا التشوهات والأمراض القاتلة التى ألمت ب«الناجين»، من أبشع جريمة قتل جماعى شهدها تاريخ الإنسانية.. وقد تأثر برادبرى بهذه الواقعة تأثرا بالغا شاركه فيه عدد من الكتاب فى بلاده، فعكست أعمالهم وعيا وأمانة وشعورا إنسانيا، ينزع قناع الادعاء ويكشف عورات السلطة حتى يبرأ المجتمع من ويلاتها. الفيلم يحكى عن عداء الحكم الاستبدادى للثقافة عداء مستحكما، لا هوادة فيه، وبما أن الكتاب هو الأداة الأساسية لتنوير العقول وإثرائها ومن ثم حثها على التفكير والابتكار والإبداع، إذن فقد أعلنت السلطة حربا لا هوادة فيها على «أُس البلاء وأصل الداء» أى الكتاب.. وكلفت أجهزة «الإطفاء!!؟؟» فيها بملاحقة الكتاب أينما كان واعتباره العدو والجاسوس والخطر الداهم الواجب اجتثاثه من جذوره، فكل ما يساعد على التفكير يعادى سلطة الاستبداد والقهر الديكتاتورية الفاشية.. كانت قوات الإطفاء تطارد الكتب وتشعل فيها الحرائق بدرجة 451 فهرينهايت، أى الدرجة التى يحترق عندها الورق.. ومعه.. الإنسان الباحث عن الثقافة والمعرفة وإشباع الروح التى يعمل فكر «استهلاك الناس» وتوزيع عقولهم، بين أنواع الطعام وبرامج التليفزيون والترويج لفلسفة الأنانية الفردية، إلخ إلخ. على إرسائها وترسيخها. ومن أهم ما علق بذهنى من هذا العمل الرائع، مشهد الكتيبة المقاومة للسلطة التخربية، بأن حفظ كل فرد من أفرادها كتابا من أعمال كبار المبدعين عن ظهر قلب، لمقاومة أعداء التفكير وحماية هذه الأعمال من نيران تتار كل عصر.. وسُمى كل منهم باسم الكتاب.. لماذا عاد هذا الفيلم إلى الذاكرة؟ وكيف لا يعود والحرائق تندلع فى كل بقعة من أرض الوطن تصل أيادى الإخوان وأتباعهم إليها؟ وقد اتضح أن من يتربى على مبدأ السمع والطاعة فلابد أن يحرق أول ما يحرق «الكتاب» كما رأينا مؤخرا، تجسيدا لعدائهم للكتاب أكثر من مرة، كانت آخرها إحراق مكتبة أستاذنا محمد حسنين هيكل، وطبعا لم يسمعوا ما سبق وقاله الأستاذ عن استحالة «اختراق» أو احتراق ما بداخل علبة اسمها العقل وأن عقول الملايين تحفظ عن ظهر قلب أفكار هيكل كما صاغها بكلماته ونفس الشىء لكبار مبدعينا على مر التاريخ.. وأن انتصار الذاكرة المصرية الوطنية الأصيلة، على أعداء قوتها الناعمة، انتصار حتمى!! على كل أنواع «الفهرينهايت» خاصة فى قناعه الجديد.. 2013، وكل فهرنهايت إلى زوال بكل تأكيد..