استفزتنى صورتى المعلقة على حائط غرفة ابنتى الصغيرة، بابتسامة باهتة مجاملة للمصور، لم أعلق فى بيتى أى صورة خاصة حتى صورة الزفاف.. مثل هذه الصور تذكرنى بلحظة الوداع. لم أستطع أن أقاوم إصرار ابنتى على حمل الصورة من خلف مكتبتى ورغبتها فى أن تحتفظ بها فى غرفتها.. يبدو أنها أرادت بها تعويض غيابى الطويل عنها أو حضورى الغائب. الشريط الأسود على زاوية الصورة فى الأفلام القديمة، رسخ فى ذهنى منذ الصغر، أن الصور المعلقة هى للموتى فقط. أنا الآن ميت على الحائط، محاصر فى إطار ذهبى، بأيام عمرى التى تسربت من بين يدى وأنا أجرى فى شوارع الحياة، لم أرتح يوماً وأنا أسعى بكل سرعة نحو الخمسين من عمرى، أسرع نحو المرآة وأغلق الباب خلفى، أتأمل وجهى فى المرآة.. أبحث فى التجاعيد أسفل العينين، ونظرة الحزن الغامضة التى تطل منهما، فلا أجد إلا طفلاً صغيراً فى القرية يحلم بأن يطير، فيتحسس جناحيه الصغيرين، فيطير، يرتفع، حتى يتوقف فى الهواء، لا هو قادر على الارتفاع أكثر من هذا ويفزعه السقوط الآتى لا محالة. الاستمتاع بلحظة الصمود مؤلمة مؤقتة، فإذا أتاك اليقين، تضم جناحيك، تغمض عينيك وتستسلم للحظة الهبوط الأبدى! «ده بابا، كان حبيبى، حنين أوى، الله يرحمه» هكذا ستقول ابنتى لصديقتها يوماً ما والدموع تغرق عينيها.. هذه هى اللحظة التى تفزعنى.. ليس الغياب، ولكن الإحساس به، فلماذا نترك على الجدران براويز الألم والحزن؟! كل صورة تحمل لصاحبها الحى ذكرى وحكاية وتاريخا، تاريخا صامتا فى ألبوم مهمل، نطل عليه كلما أردنا البحث عن ابتسامة قديمة أو تذكر الأحباب الذين غابوا، وربما هربنا منها بإخفائها فى حقيبة أسفل السرير أو أعلى الدولاب.. هكذا يصبح تاريخ الإنسان. حاولت إقناع ابنتى بأنى لا أحب هذه الصورة، فلتنزعها وسآتى لها بأخرى، كنت أخدعها أحاول تحرير نفسى، وإنقاذها من لحظة مؤلمة آتية بلا ريب، رفضت بشدة: «دى بتاعتى أنا، هات الصورة الجديدة جنبها.. مش كفاية إنى مبشوفكش».. آلمتنى جملتها.. لماذا نعتقد دائماً أن الغياب الطويل بدعوى توفير الأمان للأبناء أهم من البقاء طويلاً بجوارهم.. نترك لهم المال ومزيدا من الغياب والإحساس بالفقد وعدم الأمان.. لماذا لا نفهم إلا بعد فوات الأوان، فى لحظات الوهن قبل الرحيل.. ما جدوى الحياة إذا لم يترك وجودك فى نفس من تحب أثراً حياً دافئاً، مانحا للحب والاحتواء، بدلاً من صورة باردة معلقة على حائط، يبحث فيها الأحباب عن أشياء يستحقونها ولم يحصلوا عليها فى حياتك؟.. لماذا لا تخرج معى من هذا الإطار الذهبى المحمول على مسمار صدئ، إلى رحاب صدر ابنتك، روحاً ودماً، فهى تستحق أن تكون معها -ما دمت حياً- على الأرض، لا على الجدار؟!