عندما مر الشهداء كعادتهم فجر يوم الأربعاء الماضى بالقرب من شارع «محمد محمود» سابقاً «حسب قرار الثوار» صاح أصغرهم سناً «انظروا هناك»، وأسرع الشهداء نحو الجدار، وقف بعضهم على الأرض وطار البعض الآخر أعلى قليلا وابتسموا جميعا وهم يتفرجون على الرسم فوق الجدار. أجساد نساء ممشوقات يرتدين اللباس الفرعونى، كبار وصغار يقفن فى صفوف متتابعة، ينظرن جميعا إلى أعلى نحو الطائر الذى يقف فوق التابوت، يرتفع التابوت الملون فوق رأسى رجلين ينظران إلى بعضهما البعض. الطائر فوق التابوت له رأس إنسان ينظر إلى النائحات ويشير بيده وداعا، النائحات يبكين الميت الراحل نحو الأبدية، يودعنه بالدموع. قال أحد الشهداء مندهشا «ما هذا الرسم الجميل؟»، ورد آخر مفسرا بصوت حكيم «إن هذه الصورة لنا، نحن هذا الطائر فوق التابوت»، وصاح آخر لافتا انتباه الباقين «هل رأيتم صورة المخلوع وراء القضبان على طرف الجدارية؟»، التفتوا نحو هذا الجزء فرأوا وجها تمتزج فيه ملامح المخلوع والمشير مكتوبا تحته «اللى كلف مماتش»، واستكمل بنبرة الناقد الفنى مؤكدا أن مايعجبه هو المزيج المدهش لملامح الشخصين، وكذلك الطائر الواقف خارج القضبان وفوق القفص، لم يكن الطائر ينظر إلى أسفل نحو وجه المخلوع ولكنه وجه نظرته نحو «ست البنات» ووجهها المتقلص ألماً. «لا أعرف كيف يمكن لصورة واحدة أن تبعث فى الواحد ذلك الشعور بالحزن والسعادة معا». الحزن لا شك فى الصورة. إنها صورة الجنازة وإشارات الوداع، وكان قد تذكر وجه أمه الباكى وهى تودعه، أكد الشهداء جميعاً أنهم يشعرون بشىء مماثل. قال أحدهم، وكان قد مات تحت مدرعة الجيش فى ماسبيرو: «تخبرنى هذه اللوحة أن لحظة الثورة هى أيضا لحظة انبعاث الماضى من مدفنه، فنعرف فى لحظة مغزى الصور على جدران المعابد. تلك ليست آلهة، إنها أفكار وقيم ومبادئ تقدس الحياة وتحتفى بالجمال وبالخصوبة والزرع، والشاب الذى رسمها يعرف جيدا أن الصورة ليست رسما فقط، فالرسم لن يلبث أن يستحضر المعنى وراءه». وانبرى شهيد صبى قائلا إن هذا كلام صعب، للمثقفين فقط، وضحك وهو يؤكد أن سبب سعادته أن الجدار يبدو جميلاً الآن. وأن على مدار أعوام حياته الاثنى عشر لم ير الحوائط الملونة والرسومات الجميلة إلا فى كتب اللغة الإنجليزية فى المدرسة. وقهقه الجميع على تلك النكتة. مساء اليوم التالى، الخميس 8 مارس، حضر الشهداء جميعا مسيرة النساء فى يوم المرأة العالمى من نقابة الصحفيين إلى مجلس الشعب. كانت المسيرة كبيرة جدا، فيها نساء ورجال كثيرون. امتزجت أصوات النساء والرجال مطالبة بالحرية والعدالة والقصاص. «اصحوا ياللى تحت القبة. صوت المرأة يحرر أمة». وهتف الشهداء معهم، ولمح أحدهم أمه ترتدى سواد الحداد وتهتف بملء الحزن فى قلبها فطار فوق رأسها، ورأى آخر زوجته فجرى نحوها وقبل جبينها وسألها عن الأولاد. صاح أحد الشهداء «يا الله! ألا يشبهن النساء فى جدارية النائحات!». وكأنما كن كذلك بالفعل، كأن النائحات فى الجدارية قد تركن الجدار وانتفضن غاضبات فى الشوارع والميادين، عكست وجوههن الألم والقهر الطويل والتصميم على الإتيان بالحقوق الضائعة. عندما حل الليل وهدأت الشوارع عاد الشهداء إلى جدارية محمد محمود «سابقا».. قرروا النوم عند أقدام النائحات، فذلك كان أدفأ كثيراً. نقلا عن "المصري اليوم"