أزمة طاحنة عاشها «المرشد السياحى» خلال الأعوام القليلة الماضية، جعلت عدداً كبيراً منهم يُقرر الابتعاد عن مهنته التى لم يعرف غيرها طوال حياته العملية، فمنهم من اتخذ قرار الابتعاد بلا رجعة، مجرباً حظه فى مهنٍ أخرى، وآخرون قرّروا الابتعاد عن المجال بصورة مؤقتة، متمنين عودة السياحة مرة أخرى إلى سابق عهدها، فهى المهنة «الأقيم» بالنسبة لهم. «بدأت شغل فى الإرشاد السياحى سنة 95، وقتها كانت السياحة سياحة، وكان الواحد بيحس بقيمته»، كلمات بسيطة بدأ بها الخمسينى «خالد تقى» حديثه عن عمله المتوقف عنه منذ عدة سنوات، وتحديداً منذ عام 2011، بعد اندلاع ثورة يناير، التى كانت وبالاً عليه وعلى جميع العاملين فى مجال السياحة وقتها، حيث تبدّل الأمر بين ليلة وضحاها، وبدأ الشلل يصيب مهنته شيئاً فشيئاً، إلى أن قرر الابتعاد: «ماكانش قدامى حل تانى، لأن المجال كان انضرب». حلول بديلة أخرى بدأ «خالد» فى البحث عنها بعد أن فقد الأمل فى مهنته، حتى يتمكن من الإنفاق على بيته وأسرته، وسداد ما عليه من التزامات أخرى، لا سيما أن حياته كانت تسير بصورة طيبة، نظراً لأجره المرتفع فى مجال الإرشاد السياحى: «ماكانش ينفع أقعد فى البيت، واشتغلت عامل فى كافيتريا، وبعد كده اشتغلت فى سوبر ماركت، وبعدها فى محل عصير»، كل هذه الأمور دفعت المرشد السياحى السابق إلى تغيير روتين حياته وطريقته التى كان قد تعوّد عليها قبل أن يتوقف عن مهنته، فلم يتمكن من إدخال أبنائه مدارس خاصة يتعلمون بها كما كان مخططاً لذلك: «الظروف بقت لا تسمح، ودخلتهم مدارس عادية، وإنفاقى على البيت قل بنسبة كبيرة جداً، لأن دخلى اللى كان بيعدى خمستلاف جنيه فى الشهر مابقاش يكمل الألف ونص، ومع الغلاء اللى بقينا فيه، المبلغ ده مابقاش ليه قيمة». لم تتمثل أزمة «خالد» فى معاناته المادية التى تعرّض لها فحسب، وإنما تخطى الأمر ذلك إلى أزمة معنوية أخرى تعرض لها رغم قيمة مهنته التى خدم بها مصر، على حد قوله: «للأسف إحنا بالرغم من إننا الفئة الوحيدة اللى ماطالبتش بمطالب فئوية، ولا كان ليها ضغط، إلا أن الدولة تجاهلتنا ونسيتنا، وحتى هذه اللحظة لم يتم دعمنا، لا مادى ولا معنوى، من أى جهة، بالعكس كمان ساعات بنحس أن المجتمع بيتشفّى وفرحان فينا، رغم إننا كنا من أدوات خدمة البلد وبنعرّف الناس بتاريخ بلدنا علشان ييجوا تانى»، ورغم الكثير من المحاولات التى قام بها عدد من المرشدين السياحيين القدامى من أجل البحث عن أى دعم مادى لهؤلاء المتضررين، إلا أن شيئاً لم يتغير، حسب «خالد»، وهو ما أصاب الكثيرين بالإحباط: «فيه زملاء كتير تعبوا جداً، وناس انتحروا بسبب توقف المهنة وإنهم ماقدروش يوفوا التزاماتهم، بس أحياناً بيكون الوضع محرج للكل، لأن النقيب نفسه وباقى الزملاء بيعانوا من نفس اللى أنا باعانى منه». وفى المعاناة نفسها، عاش «ضاحى موسى»، 48 سنة، الذى مر على بداية عمله فى الإرشاد السياحى أكثر من 25 عاماً، كان يشعر فى بدايتها بفخر الانتساب إلى هذه المهنة «الأعظم»، من وجهة نظره، فهى مهنة لا تُقارن بالنسبة له بغيرها من المهن فى مختلف النواحى، سواء من الناحية المادية أو الناحية المجتمعية، ونظرة من حوله إليه، إلا أن هذا كله سقط أرضاً، مما جعله يشعر بأسى كبير على ما وصل إليه من حال، ليحكى عن مهنته بنبرة اعتراها الحزن، قائلاً: «التدهور بدأ بشكل تدريجى من الأزمة الاقتصادية العالمية اللى كانت فى 2009، بعدها دخلنا على أزمات مختلفة، لحد ما جت الثورة اللى قفلت على كل حاجة». لم يكن حال «ضاحى» أفضل من المرشدين السياحيين غيره، لا سيما أبناء جيله الذين امتهنوا مجال الإرشاد لأعوام طويلة مضت، مما جعله ينتهج أسلوبه الخاص، فى محاولة منه لسد العجز الناتج عن الأزمة التى يمر بها، إلا أن الحظ السيئ كان ملازماً له أيضاً: «كنت محوش شوية فلوس وقلت أشتغل بيهم فى العقارات، وبعد فترة حصل ركود كبير، فاشتغلت فى البيع والشرا، برضه الدنيا ريحت معايا، قُمت مسافر بعدها شرق آسيا وعملت شركة استيراد وتصدير وسياحة، بس لما الجنيه اتعوم والدولار سعره رفع، ده انعكس علينا فى الخارج وماكانش قدامى غير إنى أرجع تانى، وعملت هنا شركة استثمار مع أكتر من شريك، وبرضه علشان الظروف كانت صعبة، الشغل كان قليل، واضطرينا نعمل لها إيقاف السنة، وآدينا مستنيين الفرج». فترة هى «الأفضل» التى عاشها «ضاحى» ممتهناً مجال الإرشاد السياحى، فهو عمل «راقٍ» يجعله كل يوم فى صحبة أناس جدد ومن ذوى الثقافات المختلفة، الأمر الذى كان ينعكس على شخصيته بصورة كبيرة، حسب قوله، ولكن «ما باليد حيلة»، لا سيما أنه رأى الكثير من الأزمات التى تعرّضت لها السياحة إلا أن هذه الأزمة كانت أكبرها بالنسبة له: «أى أزمة كانت بتاخد لها شهرين تلاتة بالكتير، لكن المرة دى أنا فقدت الأمل إنى أشتغل مرشد سياحى تانى، وكنت هاعمل للترخيص بتاعى حفظ الفترة اللى فاتت دى، لأنى حتى لو اشتغلت إرشاد دلوقتى تانى مش هيبقى زى الأول». طريق مختلف قرّر أن يسلكه «محمود بخيت»، المرشد الخمسينى، خريج كلية الآداب قسم الإرشاد السياحى بجامعة المنيا، حيث إنه لم يتمكن من ترك المجال الذى أفنى فيه عمره، رغم قلة العائد منه، وهو ما جعله يتحسّر على هذا «الزمن الجميل» للمرشد السياحى: «فيه فرق كبير بين الإرشاد السياحى زمان ودلوقتى، زمان كان المرشد السياحى ليه وضعه، لدرجة إنه كان بيتعمل له كشف هيئة، وماكانش أى حد يبقى مرشد سياحى»، كلها أمور لم تعد موجودة الآن بسبب الأزمة التى تعرّضت لها المهنة، مما أدخل إليها «أشباه المرشدين»، الذين لا يعرفون شيئاً عن المجال، حسب قوله: «إحنا فى عهد الاضمحلال بالنسبة للمرشدين، وفى الفترة دى اتخرّجت أجيال جديدة ماتعرفش كتير عن السياحة، غير إنه ظهر المرشد اللى بيجمع بين شغلانتين، وده بيأثر بالسلب على شكل المرشد السياحى». يعيش «بخيت» على أمل عودة السياحة مرة أخرى كسابق عهدها، فهى «كنز» لا يمكن التفريط فيه، إلا أن متطلبات الحياة أجبرته على البحث عن عمل آخر بجانب عمله حتى يوفر له ما يحتاجه من نفقات: «كان عندى حساب بالدولار فى البنك، غير حسابى بالجنيه، وكان عندى أرض، كل ده اتباع دلوقتى، ده غير إنى بقى علىّ ديون كبيرة جداً، وحولت بناتى من مدارس اللغات اللى كانوا فيها لمدارس حكومة، لدرجة إن دموعهم بقت تنزل لوحدها وهما قاعدين فى البيت»، حياة بائسة أصبح يعيش فيها «بخيت» وأسرته، مما دفعه إلى الاقتراض من أجل مشاركة زميل له فى مقهى يساعده على توفير بعض النفقات اللازمة للبيت، لا سيما أن يوميته ك«مرشد سياحى» أصبحت بلا قيمة: «يومية المرشد كانت 700 جنيه مثلاً، دلوقتى لو شركة إيدتك 100 جنيه بتحمد ربنا، لأن مفيش غيرها، وأنا عن نفسى آخر يومية أخدتها كان من شهر ونص، وكنت قاعد قبلها 5 شهور ماطلعتش»، ليختم حديثه بنبرة حزينة، قائلاً: «الوضع بقى مخزى، وللأسف محدش بيفكر فينا».