كعادته، التى فرضتها عليه طبيعة عمله، يصحو من نومه عبوساً، يتمنى استمرار ظلام الليل ليكسب قسطا إضافيا من النوم، يعينه على عناء يوم عمل شاق ملىء بهموم لا تنتهى، يبدأ من الخامسة فجرا وينتهى بعد الثانية عشرة منتصف الليل، يقسم يومه إلى نصفين: صباحا سائق أتوبيس بهيئة النقل العام التى لا يكفى راتبها دفع إيجار شقته الصغيرة ونفقات أسرته التى تتكون من زوجة وأربعة أبناء فى مراحل تعليمية مختلفة، ونصف يومه الثانى يعمل سائقا على تاكسى، حتى يتمكن من توفير نفقات بيته التى تزيد يوميا على حد زعمه، بينما هو يظل عاجزا عن ملاحقة زيادة نفقاته التى لا تتوقف. محمود سعيد، البالغ من العمر 40 عاما، قضى منها 12 عاما سائقا بهيئة النقل العام، متنقلا بين خطوطها وجراجاتها المنتشرة فى القاهرة الكبرى، لم تختلف طبيعة عمله الشاق، كما يروى، فى نهار العيد عن باقى أيام العام، يخرج من بيته بمنطقة الخصوص فى الخامسة صباحا، قاصدا جراج السواح بمنطقة الأميرية، ليبدأ تجهيز الأتوبيس للخروج من الجراج فى الخامسة والنصف، لخّص هذه التجهيزات فى تسخين العربة لمدة 10 دقائق، يستغلها فى تنظيف زجاج الأتوبيس الأمامى، وتزويد مياه التبريد، ليبدأ بعدها الخروج مع رفيق عمله الكمسارى إلى موقف المؤسسة، حيث يعمل «محمود» على خط شبرا الخيمة مروراً بشارع بورسعيد وصولا إلى الدراسة. «الوطن» رصدت رحلة الذهاب من شبرا الخيمة إلى الدراسة داخل أتوبيس هيئة نقل عام يحمل رقم «915» وعاشت مع محمود السائق وأيمن الكمسارى وزبائنهما الدائمين من الموظفين. ينتظر العشرات من المواطنين الأتوبيس داخل موقف «المؤسسة» بمنطقة شبرا الخيمة؛ فبمجرد دخوله الموقف، يتسابق عليه المنتظرون من أجل الفوز بمقعد، ومن لم يستطع اللحاق بمعقد يحجز مكانا يستطيع أن يقف فيه بعيدا عن مؤخرة الأتوبيس، السائق محمود الجالس يشمر عن ساعديه ولسان حاله يقول «استعنّا ع الشقا بالله»، دقائق الانتظار تنتهى سريعا، ويتحرك الأتوبيس من محطته الأولى مكتمل الركاب، رغم العشرات وربما المئات الذين ينتظرونه طوال خط سيره حتى وصوله إلى محطته الأخيرة. يغوص بعض الجالسين على المقاعد فى سبات عميق حتى يصل الأتوبيس إلى نهاية خط السير؛ حيث تستغرق الرحلة 45 دقيقة، كل مكان داخل الأتوبيس له خصائصه وعيوبه التى يتسم بها، صوت الموتور المزعج الذى اعتاد عليه الركاب فى مؤخرة الأتوبيس يمثل مشكلة بالنسبة لهم، خصوصا مع ترسب الأبخرة التى تكاد تخنق من يجلس فى المقعد الأخير والتى تصاحبها ارتفاع درجة الحرارة الناتجة عن الموتور، ما يزيد من معاناتهم، وفقا لياسر منصور، أحد ركاب الأتوبيس الدائمين، بينما مقدمة الأتوبيس يتحرك فيه زجاج الشبابيك الراقد داخل مجراه المتهالك دون «الجوان الجلد» الذى يحكم الزجاج، ما يتسبب فى حدوث صوت متواصل لا ينتهى إلا بتوقف الأتوبيس، يبرر «محمود»، سائق الأتوبيس الذى يناديه زملاؤه باسم حركى «أشرف» يستخدمه العاملون بهيئة النقل العام فى ظل وجود الركاب، خشية أن يعرف أحد الركاب اسم السائق ويشكوه فى حالة حدوث مشكلة أو صدام مع الركاب بأن الأتوبيس قديم ومتهالك وأعطاله كثيرة ورغم ذلك يصر المسئولون بالجراج على خروجه للعمل على خط سير، قائلا: «نفسى أركب عربية جديدة من اللى الهيئة جابتهم»، مضيفا: «العربية بتسخن، خاصة مع ارتفاع درجة الحرارة، ولو ما وقفتش علشان الموتور يبرد ممكن تقفش منا ونفضل طول اليوم فى الشارع لحد ما عربية الصيانة تيجى»، ومع ذلك يصر المسئولون على خروج الأتوبيس للعمل رغم معرفتهم بالعيوب الموجودة فى السيارة، على حد زعمه. وبمجرد قطع الأتوبيس ربع المسافة بالوصول إلى منطقة مسطرد لا يكون بداخله موطئ لقدم، كما يحكى سعد خيرى، أحد الركاب، موضحا أن الزحام يصل إلى الباب الخلفى الذى يتشبث به الركاب مضطرين إلى ذلك، حتى لا يتأخروا عن عملهم، مضيفا أنه لا توجد وسيلة موصلات أخرى تذهب إلى منطقة الدراسة مباشرة، بخلاف الأجرة المضاعفة التى سيدفعها فى الميكروباص وركوب أكثر من وسيلة مواصلات. «الحرامية لا يعترفون بحرمة السرقة وينشطون فى الأعياد».. هكذا تحدث أيمن، الكمسارى، عن اللصوص الذى يصعدون إلى الأتوبيس مستغلين الزحام، للإيقاع بضحاياهم. عندما يتحول الأتوبيس إلى علبة سردين، على حد تعبيره، يستغل اللصوص هذا الزحام ويندسون وسط الركاب، ويؤكد أن الكمسارى يعرف أشكالهم التى اعتاد عليها وتصرفاتهم التى يتخذونها وسيلة لسرقة من يريدون، لكنه يخشى الكلام أو التنبيه على من يتعرض للسرقة؛ لأنه سوف يدفع الثمن، كما حدث مع أحد زملائه؛ حيث تمت مراقبتهم وسرقة إيراد الوردية دون أن يجد من يستغيث به أو يقف معه، سواء من الركاب أو أمناء الشرطة الذين تصادف وجودهم أثناء حادث السرقة، وقام بتحرير محضر بالواقعة ورغم ذلك قامت الهيئة بخصم الإيراد المفقود من راتبه على عدة شهور. ويشترك الاثنان، السائق والكمسارى، فى قلة الدخل، التى أثبتها «محمود» بورقة مفردات مرتبه التى أخرجها من حافظة نقوده، ليؤكد أن مرتبة الأساسى لا يتجاوز 190 جنيها والشامل لا يتعدى 500 جنيه، موضحا أن الزيادة التى أضيفت بعد الإضرابات لم يستفِد منها غير «الناس القديمة فى الهيئة». فى أيام رمضان يفطر كل سائق نصف الشهر الكريم خارج بيته تقريبا، أثناء عمله فى «الشفت» المسائى، ما يجعلهم ضيوفا دائمين على موائد الرحمن، كما يروى سائق الأتوبيس وصاحبه الكمسارى، والحال نفسه فى العيد الذى لا يقضيه السائقون كاملاً وسط عائلاتهم.