تعيش أسواق المدينة العتيقة، بالعاصمة تونس، حالة ركود لم تعرف لها مثيلا، إثر اغتيالات سياسية أعقبها مواجهات بين الجيش ومسلحين بمنطقة "الشعانبي"، بمحافظة القصرين الحدودية مع الجزائر. واغتيل المعارض التونسي محمد البراهمي في 25 يوليو الماضي بالرصاص، في ثاني واقعة من نوعها، بعد اغتيال المعارض شكري بلعيد في فبراير الماضي، كما لقي 8 جنود من الجيش مصرعهم، في تبادل لإطلاق النار مع مسلحين بجبل الشعانبي بمحافظة القصرين، على الحدود مع الجزائر. وأشعل اغتيال البراهمي موجة من الاحتجاجات في البلاد، تطالب بإقالة الحكومة وحل المجلس التأسيسي (البرلمان)، وهو ما رفضته السلطات بشدة. وتعدّ مدينة تونس العتيقة وجهة سياحية أولى، حيث يتوافد عليها السائحون من مختلف أقطاب العالم، لما تزخر به من ثروة ثقافية وحضارية ومعمارية، وما تنتجه من صناعات تقليدية يتم ترويجها فقط بأسواقها. وحافظت المدينة على طابعها المعماري التقليدي منذ قرون مضت، وكان الجزء العتيق منها تأسس في سنة 698 م حول جامع الزيتونة، وصُنفت ضمن لائحة مواقع التراث العالمي لليونسكو، أواخر سبعينات القرن الماضي. واعتاد تجار المدينة العتيقة منذ سنين، على استقبال وفود سياحية كبيرة، لعبت دورا في تنشيط التجارة السياحية في تلك الأسواق خلال أغلب فصول السنة، وخصوصا في فصل الصيف، الذي يمثل ذروة الموسم السياحي في البلاد. وكانت الأسواق التقليدية بالمدينة العتيقة - ومازالت - تلبي كل ما يحتاجه السائح الأجنبي الثري والمتوسط من صناعات تقليدية متقنة عادة ما تحوز إعجابه لينفق الكثير من الأموال لشراءها. ويعد المصوغ، والعطور، والخزف، والجلد، والشاشية التقليدية (الطربوش المغربي)، إضافة إلى الزربية التونسية (السجاد المحلي)، والمرقوم، من أشهر الصناعات التقليدية التي تروج في الأسواق العتيقة التونسية. كما تعتبر الملابس التقليدية، مثل الجبة والبرنوس، والتحف المعدنية الصغيرة، من أبرز المنتجات التقليدية التي يقبل عليها السائح الأجنبي، نظرا لجمال شكلها، وصغر حجمها، وانخفاض أثمانه. وبحسب احصائيات رسمية، تساهم صادرات قطاع الصناعات التقليدية بنحو 2 بالمائة من إجمالي الصادرات المحلية، ونحو 4 بالمائة من الناتج المحلي العام. وتقدّر قيمة الاستثمارات السنوية في هذا القطاع بنحو 18.8 مليون دينار (نحو 12 مليون دولار)، كما يستوعب القطاع قرابة 11 بالمائة من اليد العاملة التونسية بين إطارات وتجار وحرفيين حيث يوفر حوالي 350 ألف فرصة عمل. لكن وبعد اندلاع الثورة الشعبية، التي أطاحت بالرئيس السابق زين العابدين بن علي عام 2011، عاشت تلك الأسواق ركودا لم تعرف له مثيلا، وذلك نظرا لتخوف الأجانب من الاضطرابات السياسية والأمنية التي عاشتها البلاد لاحقا، وتصاعدت في الآونة الأخيرة. وفي زيارة لأحد أهم المتاجر التاريخية الواقعة في عمق سوق اللفة ب"المدينة العربي" بالعاصمة، تم لقاء صاحب المحل، التاجر محمود النموشي، الذي سرد بكل حسرة الوضع الاقتصادي الصعب والمتأزم الذي تعيشه سوق المدينة العتيقة، نتيجة لانخفاض توافد السياح عليها. ودعا النموشي كل الأطراف المشرفة على قطاع الصناعات التقليدية، لتسهيل معاملات صغار التجار والحرفيين بسبب القلاقل السياسية والأمنية. وأشار التاجر، في سياق حديثه، إلى التراجع الملحوظ في المبيعات، خاصة منها الزربية التي اهترأ بعضها وكسا الغبار بعضها الآخر. وأوضح محمود أن الأوضاع يمكن أن تتحسن في حال التزم كل بواجبه وأخلاقيات مهنته، قائلا إن مهنة التجارة مسؤولية. وقال حمدة الجربي، تاجر بأسواق المدينة العتيقة، إن السوق التقليدية أصبحت تعاني أزمة حقيقية لم يعرف لها مثيل، إذ برزت إبان الثورة وتعمقت مع الاضطرابات السياسية والأمنية الحاصلة مؤخرا في البلاد. وأردف حمدة: "كان وضع السوق أحسن قبل اغتيال البراهمي وما تبعه من أحداث بجبل الشعانبي، حيث تعمقت أزمة السوق بعد ذلك فأصبحت أغلب المحال تشهد تردد بضع عشرات من الزوار طوال اليوم، بخلاف الفترة السابقة حيث عرف سوقنا انتعاشة ملحوظة مع بداية الموسم السياحي". من جهته، نفى الهادي حمدي، مكلف الإعلام للجامعة الوطنية لوكالات الأسفار، وجود أي إحصائيات رسمية تفيد بإلغاء الحجوزات أو تراجع عدد السياح الوافدين إلى تونس. وأضاف حمدي أن عددا من الجهات المكلفة بتوجيه السياح من جميع أنحاء العالم تتصل باستمرار للاستفسار عن الأوضاع في البلاد، خصوصا في الفترة الأخيرة، بهدف طمأنة الراغبين في القدوم إلى تونس. وكان خبراء توقعوا في وقت سابق، أن تقترب مؤشرات السياحة لهذا العام إلى مستوى سنة 2010، والذي وصلت خلاله مؤشرات القطاع السياحي أوجها، حيث بلغ عدد السياح 7 ملايين سائح. وتشير إحصائيات رسمية إلى توافد نحو 6 ملايين سائح على تونس عام 2012، حيث أقبلوا من مختلف أنحاء العالم، وخاصة من أوروبا والمغرب العربي وأمريكا الشمالية، إضافة إلى بلدان الشرق الأوسط.