«مستقبل وطن».. أمانة الشباب تناقش الملفات التنظيمية والحزبية مع قيادات المحافظات    تفاصيل حفل توزيع جوائز "صور القاهرة التي التقطها المصورون الأتراك" في السفارة التركية بالقاهرة    200 يوم.. قرار عاجل من التعليم لصرف مكافأة امتحانات صفوف النقل والشهادة الإعدادية 2025 (مستند)    سعر الذهب اليوم الإثنين 28 أبريل محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير    فيتنام: زيارة رئيس الوزراء الياباني تفتح مرحلة جديدة في الشراكة الشاملة بين البلدين    محافظ الدقهلية في جولة ليلية:يتفقد مساكن الجلاء ويؤكد على الانتهاء من تشغيل المصاعد وتوصيل الغاز ومستوى النظافة    شارك صحافة من وإلى المواطن    رسميا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 28 أبريل 2025    لن نكشف تفاصيل ما فعلناه أو ما سنفعله، الجيش الأمريكي: ضرب 800 هدف حوثي منذ بدء العملية العسكرية    الإمارت ترحب بتوقيع إعلان المبادئ بين الكونغو الديمقراطية ورواندا    استشهاد 14 فلسطينيًا جراء قصف الاحتلال مقهى ومنزلًا وسط وجنوب قطاع غزة    رئيس الشاباك: إفادة نتنياهو المليئة بالمغالطات هدفها إخراج الأمور عن سياقها وتغيير الواقع    'الفجر' تنعى والد الزميلة يارا أحمد    خدم المدينة أكثر من الحكومة، مطالب بتدشين تمثال لمحمد صلاح في ليفربول    في أقل من 15 يومًا | "المتحدة للرياضة" تنجح في تنظيم افتتاح مبهر لبطولة أمم إفريقيا    وزير الرياضة وأبو ريدة يهنئان المنتخب الوطني تحت 20 عامًا بالفوز على جنوب أفريقيا    مواعيد أهم مباريات اليوم الإثنين 28- 4- 2025 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    جوميز يرد على أنباء مفاوضات الأهلي: تركيزي بالكامل مع الفتح السعودي    «بدون إذن كولر».. إعلامي يكشف مفاجأة بشأن مشاركة أفشة أمام صن داونز    مأساة في كفر الشيخ| مريض نفسي يطعن والدته حتى الموت    اليوم| استكمال محاكمة نقيب المعلمين بتهمة تقاضي رشوة    بالصور| السيطرة على حريق مخلفات وحشائش بمحطة السكة الحديد بطنطا    بالصور.. السفير التركي يكرم الفائز بأجمل صورة لمعالم القاهرة بحضور 100 مصور تركي    بعد بلال سرور.. تامر حسين يعلن استقالته من جمعية المؤلفين والملحنين المصرية    حالة من الحساسية الزائدة والقلق.. حظ برج القوس اليوم 28 أبريل    امنح نفسك فرصة.. نصائح وحظ برج الدلو اليوم 28 أبريل    أول ظهور لبطل فيلم «الساحر» بعد اعتزاله منذ 2003.. تغير شكله تماما    حقيقة انتشار الجدري المائي بين تلاميذ المدارس.. مستشار الرئيس للصحة يكشف (فيديو)    نيابة أمن الدولة تخلي سبيل أحمد طنطاوي في قضيتي تحريض على التظاهر والإرهاب    إحالة أوراق متهم بقتل تاجر مسن بالشرقية إلى المفتي    إنقاذ طفلة من الغرق في مجرى مائي بالفيوم    إنفوجراف| أرقام استثنائية تزين مسيرة صلاح بعد لقب البريميرليج الثاني في ليفربول    رياضة ½ الليل| فوز فرعوني.. صلاح بطل.. صفقة للأهلي.. أزمة جديدة.. مرموش بالنهائي    دمار وهلع ونزوح كثيف ..قصف صهيونى عنيف على الضاحية الجنوبية لبيروت    نتنياهو يواصل عدوانه على غزة: إقامة دولة فلسطينية هي فكرة "عبثية"    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. غارات أمريكية تستهدف مديرية بصنعاء وأخرى بعمران.. استشهاد 9 فلسطينيين في قصف للاحتلال على خان يونس ومدينة غزة.. نتنياهو: 7 أكتوبر أعظم فشل استخباراتى فى تاريخ إسرائيل    29 مايو، موعد عرض فيلم ريستارت بجميع دور العرض داخل مصر وخارجها    الملحن مدين يشارك ليلى أحمد زاهر وهشام جمال فرحتهما بحفل زفافهما    خبير لإكسترا نيوز: صندوق النقد الدولى خفّض توقعاته لنمو الاقتصاد الأمريكى    «عبث فكري يهدد العقول».. سعاد صالح ترد على سعد الدين الهلالي بسبب المواريث (فيديو)    اليوم| جنايات الزقازيق تستكمل محاكمة المتهم بقتل شقيقه ونجليه بالشرقية    نائب «القومي للمرأة» تستعرض المحاور الاستراتيجية لتمكين المرأة المصرية 2023    محافظ القليوبية يبحث مع رئيس شركة جنوب الدلتا للكهرباء دعم وتطوير البنية التحتية    خطوات استخراج رقم جلوس الثانوية العامة 2025 من مواقع الوزارة بالتفصيل    البترول: 3 فئات لتكلفة توصيل الغاز الطبيعي للمنازل.. وإحداها تُدفَع كاملة    نجاح فريق طبي في استئصال طحال متضخم يزن 2 كجم من مريضة بمستشفى أسيوط العام    حقوق عين شمس تستضيف مؤتمر "صياغة العقود وآثارها على التحكيم" مايو المقبل    "بيت الزكاة والصدقات": وصول حملة دعم حفظة القرآن الكريم للقرى الأكثر احتياجًا بأسوان    علي جمعة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ إلهي.. وما عظّمنا محمدًا إلا بأمر من الله    تكريم وقسم وكلمة الخريجين.. «طب بنها» تحتفل بتخريج الدفعة السابعة والثلاثين (صور)    صحة الدقهلية تناقش بروتوكول التحويل للحالات الطارئة بين مستشفيات المحافظة    الإفتاء تحسم الجدل حول مسألة سفر المرأة للحج بدون محرم    ماذا يحدث للجسم عند تناول تفاحة خضراء يوميًا؟    هيئة كبار العلماء السعودية: من حج بدون تصريح «آثم»    كارثة صحية أم توفير.. معايير إعادة استخدام زيت الطهي    سعر الحديد اليوم الأحد 27 -4-2025.. الطن ب40 ألف جنيه    خلال جلسة اليوم .. المحكمة التأديبية تقرر وقف طبيبة كفر الدوار عن العمل 6 أشهر وخصم نصف المرتب    البابا تواضروس يصلي قداس «أحد توما» في كنيسة أبو سيفين ببولندا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



القيروان‏..‏ موطن الصوفية وقبلة الفتح الإسلامي للأندلس
نشر في الأهرام اليومي يوم 12 - 08 - 2011

في مشهد يقترب من الصوفية الإبداعية حيث الصمت والهدوء والمصالحة مع الذات‏,‏ سكوت معبأ بالقول تتجمع نهارا خيوط أشعة الشمس من كل حدب وصوب لتكشف وتضيء جمال مدينة عقبة بن نافع رابع مدينة مقدسة بناها المسلمون بعد الكوفة والبصرة والفسطاط. إنها القيروان ساحرة مدن تونس, تلك البقعة التي ظلت شاهدا منذ الآف السنين- وحتي يومنا هذا- علي حضارة إسلامية عظيمة.
هنا في قلب هذا المشهد الروحاني تصافح عيناك ملامح أرض تزهو بما عليها من بشر أحرار, كتبوا بأيديهم تاريخ عز وإزدهار ودشنوا ربيع الثورات العربية يوم18 ديسمبر2010 م بيقين إيماني نابع من جوهر هذه المدينة الإسلامية الأولي في منطقة المغرب العربي. والتي أصبحت العاصمة الروحية والسياسية للمغرب الإسلامي ومركز الثقل فيه منذ بدء الفتح إلي آخر أيام دولة الأمويين في دمشق.
ومن هنا أيضا انطلق الفاتحون إلي الأندلس بقيادة طارق بن زياد الذي عبر بجيوشه المضيق بين أفريقيا وأوروبا والذي سمي بجبل طارق ليقيم دولة إسلامية استمرت قرابة ثمانية قرون, ومن ذات المكان انطلق فتح صقلية بقيادة أسد بن فرات قاضي القيروان الذي استشهد علي سواحل الجزيرة, لكن الحكم العربي استمر بعده طيلة ثلاثة قرون.
تلك المدينة المحاطة بهالات من الرهبة وجلال المشهد ذكرها الإدريسي في كتابه نزهة المشتاق في اختراق الآفاق قائلا: القيروان أم أمصار, وعاصمة أقطار, أعظم مدن الغرب قطرا, وأكثرها بشرا, وأيسرها أموالا, وأوسعها أحوالا, وأتقنها بناء, وأنفسها همما, وأربحها تجارة وأكثرها جباية, ولذا تبدو بيوت القيروان لعين الرائي كالحلي علي صدر الأحياء القديمة والأزقة, ووراء المشربيات آلاف الحكايات, وخلف الأبواب تسكن أحلام البسطاء حيث الدكاكين بألوانها الزرقاء كفصوص الفيروز تبرق في عمق الليل, وفي الصباح تموج بالزبائن وتنشد الرزق الحلال..شوارعها ممهدة ومفروشة بالصخور البركانية والقناديل التراثية..
في حين غفلة, ودون أن أشعرتوقفت عجلة الزمن فجأة, وعادت بي عقارب الساعة إلي الوراء, ألف وثلاثمائة عام تقريبا, ففي هذه البقعة تحديدا, وعلي بعد150 كيلومترا جنوب تونس العاصمة, أرسي القائد عقبة بن نافع قواعد مدينته الجديدة سنة50 هجرية/670 ميلادية, وأقام بوسطها المسجد الجامع حيث أن الدين يمثل محور حياة كل مسلم, وإلي جواره أسس دار الإمارة, ثم جاء اختياره لتسمية القيروان متوافقه تماما مع الغرض الأصلي من تأسيسها, فهي كلمة معربة عن اللغة الفارسية وتعني المعسكر أو القافلة, ولم يكن عقبة يدري وهو يدعو ربه ليمنعها من جبابرة الأرض ويملأها فقها وعلما ويجعلها عزا للإسلام, أي مصير تخبئه لها الأيام, إلا أنه استراتيجيا كان موفقا في اختياره حين سجلت تاريخها بحروف من نور عندما أستندت علي: الجهاد والدعوة, فبينما كانت الجيوش تخرج منها للغزو والفتح, كان الفقهاء يخرجون منها لينتشروا بين البلاد يعلمون العربية ويدعون للإسلام, فعلي هذه الأرض الطاهرة أشرقت شمس حضارات عديدة من فاطميين وأغالبة وصنهاجيين وبرابرة وحفصيين وهلاليين وحسينيين وعثمانيين.. جميعها أكسبت تفاصيل الحياة عليها بصمة خاصة, وجعلت اليونسكو يسجل المدينة علي قائمة التراث العالمي منذ عام.1988
جامع عقبة بن نافع
شاءت الأقدار أن تكون قبلتي الأولي في هذه الرحلة إلي جامع عقبة بن نافع الذي يأتي لزيارته كل عام آلاف السائحين كي يستمتعوا برؤية هندسته المعمارية وسحر تصاميمه, ما أن فتح لنا الحارس بوابته الخشبية الشاهقة الإرتفاع أحسست بأن التاريخ يفتح لنا أبوابه علي مصراعيها, الحجارة, الممرات, الأروقة, ومفردات أخري تسافر بك إلي غرناطة العز والمجد, وفي وسط ساحة فنائه الكبير المليئة بالحمام, ينتابني شعور بأنني أملك الدنيا وما فيها من جمال وصفاء, تماما كحال الشاعر الكبيرنزار قباني عندما قال في حب غرناطة:
ومشيت مثل الطفل خلف دليلتي
وورائي التاريخ كوم رماد
الزخرفات أكاد أسمع نبضها
والزركشات علي السقوف تنادي
قالت: هنا الحمراء زهو جدودنا
فاقرأ علي جدرانها أمجادي
سجل علي جدران الجامع الفضل في رسم ملامحه وتخطيطه النهائي إلي الأمير زيادة الله الثالث(221-223 هجريا), الأرض فيه تشع بريقا كما يشتمل علي17 بلاطة وثمانية أساكيب ويستمد تخطيطه من الجوامع الأموية مع الإقتداء بمثال جامع الرسول( صلي الله عليه وسلم) بالمدينة وبداخله تستوقفك أكثر من300 لوحة تقريبا تحمل زخارف نباتية وهندسية بديعة, تعبر عن تمازج التأثيرات البيزنطية والإيرانية وتوحدها في روح إسلامية.
لابد أن تبهر عين زائر المكان ذلك الأثاث الأصلي للجامع والذي يرجع بالطبع إلي فترات إنشائه الأولي, كم هو رائع منبره الخشبي المصنوع من خشب الساج(248 هجريا), وهو يعتبر من أقدم المنابر الإسلامية التي سلمت من تقلب الأزمان, ولم أستطع طوال الوقت منع نظري من تسلق سقوفه الخشبية المدهونة والمصقولة, التي ترجع إلي فترات تاريخية مختلفة تمتد علي ما يربو علي الألف سنة.
جلست أصغي لصوت الحجارة تحكي لي قصص الأمجاد, وما أن ارتفع صوت الأذان, وهامت التكبيرات في أنحاء الفضاء عبر منارته- المربعة القاعدة- حتي استشعرت وأنا أطرب لصوته العذب بلحن يعزف في داخلي, أو ربما ابتهالات وتواشيح أندلسية تشيع في روحي غبطة وفرحا, لقد حانت لحظة الوداع.
متحف رقادة
بعد أن انتهيت من جولتي بالجامع كنت أحتضن الصباح بقوة الإنشاد بخطي واثقة رحت أبحث في مفارق الطرق عن مكان آخر مفعم بالقيمة والمعني كي أجد فيه المفاتيح التي تفتح أبواب هذه المملكة العتيقة فوجدتني أقف أمام متحف رقادة, هذا العالم الكبير الذي يزخر برصيد ثري من مخطوطات تغطي القرون الخمسة الأولي من العهد الإسلامي, وهي التي جسدت أوج ازدهار الحضارة القيروانية, فأطياف الأجداد هنا, ونبوغ الأسلاف في شتي العلوم والمعارف كانت تتجلي بين الأشياء في مصحف مزخرف بإتقان, أو في مخطوطة فريدة تكشف عما كان. فتكشف لنا وثائق الجنيزة مثلا- أن القيروان قد أصبحت مركزا مهما لصناعة الكتابة حتي أن بضاعتها كانت تصدر للمشرق والأندلس, كما تثبت هذه الوثائق نفسها أن التجار الأفارقة كانوا يستوردون من المشرق, خاصة من الهند المواد الأولية اللازمة لذلك: كالبقم المستعمل في دبغ الجلود باللون الأحمر, وماء الأهليلج بالنسبة إلي الأصفر والحرير الصالح للتخريم والحبك...إلخ. ساعات طويلة ومثيرة تستغرق في قراءة المخطوطات وتأمل مضمونها, خاصة في مدينة ازدهرت بها هذه الصناعة خلال القرنين العاشر والحادي عشر, وكانت في أول الأمر تكتب بالخط الكوفي والريحاني والكوفي النسخي والرياشي, إلا أنه بعد الزحفة الهلالي انبرت أفريقيا للخط الأندلسي والمغربي آيا ما كان نوع الخط فهو يحوي في ثناياه الكثير من الأسرار.
وقفت أطيل التأمل في مجموعة من الخزف القيرواني وعلائق فنية رائعة من البرونز والرخام من فرط إبداعها تجبرك علي الإنحناء تحية تقدير للفنان الذي صاغها بأنامله وإحساسه, لكن دهشتي كانت أكبر أمام عرض مجموعة من التحف الأثرية التي تدحض النظرية القائلة بأن الفنان الأفريقي قد استبعد الأشكال الآدمية من فنه خلال العهد الإسلامي المبكر, ولم أبرح المتحف حتي سيطر علي عقلي عبء أن يولد في عتمة الجهل- الذي نعيشه اليوم- مصباح جديد مستوحي من حضارة الأمس, وأمل بلقاء آخر مع عصر التنوير العربي.
الزربية والفخار
في القيروان تتنفس عشقا وهياما يسكن هذا المكان, وما أن تبدأ رحلتك هنا ينتهي كل الكلام, ما أسعدني وأنا أشم نسيم الحقول الممتزج برائحة البخور يحمله الهواء من حولي ويصعد به إلي عنان السماء, كنت أعدو في ساحة الجربة فإذا برائحة التوابل الشرقية تداهمني وتبهرني بتكويناتها الهرمية وهارمونية ألوانها النارية: الأحمر والأصفر والبرتقالي, لم تكن هذه هي الصورة الوحيدة التي التقطتها ذاكرتي الفوتوغرافية, وإنما إلتقطت العديد والعديد من الصور منها: الأعلام التونسية الحمراء التي يتوسطها الهلال والنجمة المعروفتان, حيث ترفرف في كل ركن كإشارة لشعب يزهو ويفخر بوطنه ويقدس رايته, كما كانت ملامح الشرق التي تحملها وجوه المرأة القيروانية بارزة في كل الصور, وعندما كانت تعترض طريقي فتاة ترتدي أزياء خفيفة ومتماشية مع موضة العصر, كانت في المقابل تسير إلي جوارها الأم ملتزمة بالزي التراثي للمدينة والذي يتألف من قطعتين كفيلتين بتغطية كامل جسدها, ولا يخفي علي أحد أن الشعب التونسي بطبيعته يميل إلي اللون الأبيض في لباسه, ولا يحبون الأسود مطلقا.
ارتباطا بالمنهل الذي لا ينضب وإلتزاما بالموروث الثقافي والحضاري تعرض الدكاكين والبازارات هنا كل ما هو مستوحي من تراث الأجداد من حلي وسجاد وفخار وتحف, إلا أن الزربية تعد ملكة البضائع في الأسواق حيث تتدلي علي واجهات المحلات بألوانها المبهجة وإيقاعات خطوطها وتماسك تكويناتها وكأنها ألحان كونية متناثرة, ورغم تغير نمط الحياة وانتقال المجتمع إلي الحداثة فإن شعب القيروان يتمسك بها ويفترشها بالبيوت كجزء من هويته, يذكر أن إدخال الصباغة الاصطناعية علي الزربية التونسية في القرن العشرين دفع الحرفيين في القيروان إلي ابتكار زربية العلوشة للمحافظة علي اللون الطبيعي لصوف الخروف السوداء منها والبيضاء والبنية وبذلك نجحوا في الحفاظ علي سمعة هذه الصناعة التي تخطت كل الحدود.
جلست علي أحد المقاهي كي ألتقط الأنفاس من جولة شاقة وممتعة قضيتها في الشراء, وهي فرصة أيضا للاستمتاع بمشروب الشاي بالصنوبر اللذيذ, وإذا بذاكرتي تستحضر مشهد الزرابي التي كانت الإمارة الأغلبية بالقيروان تدفعها ضمن خراجها إلي الخليفة في بغداد في العصر الأول للإسلام, وتذكرت كيف تغني الشعراء الإغريق, وفي مقدمتهم الشاعر هوميروس منذ القرن الخامس قبل الميلاد بزرابي قرطاج ووساداتها المطرزة, تتدافع المشاهد التاريخية أمام عيني الآن واحدة تلو الأخري حتي قاطعني هديل يمامة تتسكع علي الرصيف لتمنعني من القفز فوق العصور وتعيدني إلي الحاضر بعذوبة صوتها وأنينها الذي يشبه نايا حزين.
عاودت المسيرة ثانية, وغالبا ما كانت تستوقفني كثيرا محلات الفخار والخزف فهي من الفنون والحرف التقليدية القديمة التي عرفها الريف التونسي, من اللافت للانتباه عدم وجود تغييرات كبيرة طرأت علي هذه الصناعة منذ العهود البربرية, فأواني الطهي بالسوق تشبه إلي حد كبير- من حيث الشكل والحجم- بعض الأواني المعروضة في متحف رقادة, وكم أعجبتني ملامح وجوه صانعي الفخار الأصيلة بملابسهم التقليدية من القميص والسراويل والجبة وهم عاكفون علي العمل بصبر ودأب المجاهدين سعيا للعيش الحلال.
تتميز الأواني التقليدية بأشكال هندسية بسيطة مثل المثلثات أوالمربعات أو الخطوط الهندسية الشبيهة بسعفة النخيل, وغالبا ما تأخذ هذه الأشكال والخطوط اللون الأسود, وترجع التأثيرات الفنية لصناعة الخزف التونسي خاصة تقنيات الطلاء والزخرفة إلي مصادرعديدة شرقية وعربية وتركية وأخيرا أندلسية وعلي فترات ممتدة, أما بالنسبة لي شخصيا أفضل تلك الأواني الفخارية التي رأيتها بعيني تحتضن ألوان الطعام التونسي الشهي خاصة الكسكسي بالعلوش( خروف), ولمن لا يعرف فإن الكسكسي التونسي لا يقدم كصنف حلو كما هو الحال في مصر, وإنما يقدم بطرق كثيرة: باللحم والدجاج والسمك( كسكس بالحوت), أوبالاخطبوط الكلماري وبالحبار, وهو يختلف عن نظيره الجزائري والمغربي في اللون حيث إن التونسي يكون أحمر نظرا لاستعمال معجون الطماطم والهريسة الحارة فيه, بينما يكون المغربي أو الجزائري أصفر بفعل استخدام الكركم.
المقروض
ربما يفوتك الكثير إذا جئت إلي هنا دون أن تتعرف بنفسك علي المقروض الذي غزا أوروبا, ويخصص له مهرجان سياحي كل عام- لا أحد يبرع في صناعته أفضل من القيروانيين مهما برع- لذلك يتهافت زوار المدينة علي اقتناء كميات كبيرة منه خاصة من المحلات الشهيرة, هو يتكون من سميد رقيق يسمي خمسة يسي يخلط بزيت الزيتون, ثم يضاف إليهما السكر وماء الورد والقرفة المسحوقة وماء العطرشية والكركم لتغييراللون, ويحشي بعجين التمر ويشكل علي هيئة مستطيلات, ويقلي في زيت ساخن جدا, ثم يوضع مباشرة في العسل لمدة ساعة, وللمقروض القيرواني أكثر من قصة, فيحكي أن العسل كان يجلب في قرب الماعز من جبل وسلات أما زيت الزيتون فتدفع به البادية الفيحاء المسماة العلا, بينما تأتي التمور فوق ظهور القوافل قادمة من توزر, وترسل أرياف القيروان والولايات المجاورة قمح أفريقيا, وأخيرا تحط الرحال في ذراع التمار بأرض عقبة, ورغم منافسة حلويات أخري له منها: الدبلة والبقلاوة وكعك العنبر, لكن يظل المقروض هو تحية الشوق والمحبة لأي ضيف.
يا ليل الصب
تمضي الأيام, ولا أبرأ من حبها, أتطرف..أتصوف..أتعبد في محراب عشقها.. ولم لا؟, وهي من عرفت في العهد الصنهاجي كمملكة للشعر وواحة للعشق والهوي..أنبتت حدائقها الغناء العديد من أسماء الأدباء والشعراء مثل: نجم بن هاني الأندلسي الذي لقب بمتنبي المغرب وعمدة بن رشيق والحصري القيرواني وتميم بن المعز, وغيرهم كثيرين ممن تميزوا في أدب الهجرة واللوعة إلي الأوطان, وربما كان محمد بن شرف هو أهم شاعر ذاع صيته في المشرق بفضل قصيدته:
يا ليل الصب متي غده...... أقيام الساعة موعده
رقد السمار فأرقه...... أسف للبين يردده
كان الشعر فيهم فإذا نادوا أهل الشعر من العرب ومن غير العرب جاءوا يلبون النداء, هكذا عرفت مدينة عقبة قيمة الكلمة وأعلت من شأنها بتنظيم مهرجانات الشعر كل عام.
يبقي في رحلة المتعة الروحانية أن أقول: الليل في القيروان باقة عطر فواحة تمنح الأحاسيس وهجا.. بيت مفتوح الأذرع يضم الأحباء والذكريات.. ما أجمل السهر هنا علي الموسيقي والطرب, وقصيدة شعر و موال معها تصبح فاتح مغامرا وشاعرا شجاعا ينشد الانتصار للروح والمكان ويؤمن بالإنسان صانع المجد والحضارة في بقعة من الغرب العربي المسلم.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.