بين السينما وثورة يوليو 1952 علاقة حب من طرف واحد، فعلى حين قدمت الثورة الكثير للسينما فمنحتها اهتماماً ورعاية واحتراماً فإن السينما والسينمائيين قابلوا ذلك بالنكران والجحود وتشويه تاريخ الثورة بعد مرحلة من التملق والنفاق. بعد تجربة فيلم «مصطفى كامل» الذى أخرجه أحمد بدرخان، وصادرته الرقابة فى الفترة الملكية، وأفرجت عنه حكومة الثورة ليعرض بعد خمسة أشهر من قيامها، وحضر عبدالناصر عرضه الأول، تنبه رجال الثورة إلى أن هناك قانوناً جائراً للرقابة على المصنفات الفنية صدر فى عام 1947 فى أعقاب التحركات الجماهيرية النشطة عام 1946، يتَضَمَّن عشرات التعليمات التى تكبل حرية التعبير وتَفْرض دائرة من الحصار المحكم حول موضوعات أهم وسائل الاتصال الجماهيرية -السينما- وأكثرها شعبية، وتَضْمَن، تماماً، عدم المساس بالسلطة أو رموزها، فألغت وزارة الإرشاد القومى فى عام 1955 تعليمات 1947 وأصدرت قانوناً جديداً أشرف على إعداده شيخ القانونيين المصريين الدكتور عبدالرازق السنهورى، وقد وفّر هذا القانون بعض الحرية لتجار السينما، لكنهم اعتماداً على موروثهم فى الخوف والجبن، وكعادتهم، آثروا السلامة وظلوا يعزفون تلك النغمات الرخيصة التى برعوا فى عزفها سابقاً، وإن ظهرت بوادر ازدهار اتجاه الواقعية النقدية عند بعض فنانى السينما المهمومين بالتعبير عن الإنسان المصرى وأشواقه للعدل والحرية والكرامة الإنسانية. فى خطوة موازية، وفى نفس العام، أنشأت الثورة مصلحة الفنون التى رأسها الكاتب الكبير يحيى حقى، الذى بدأ تجربته الخصبة فى مجال الثقافة السينمائية عام 1956 بإنشاء «ندوة الفيلم المختار» وهى الندوة التى خرج من رحمها جيل كامل من النقاد والمثقفين السينمائيين، كما أنتجت المصلحة عدداً من الأفلام التسجيلية والقصيرة. فى عام 1957 بدأت المرحلة الثانية فى علاقة الثورة بالسينما فصدر قرار إنشاء أول مؤسسة عامة للسينما «مؤسسة دعم السينما» التى تحولت عام 1958 إلى «المؤسسة المصرية العامة للسينما»، وكان هذا القرار يعنى تدخل الدولة رسمياً فى صناعة السينما، وإن ظل هذا التدخل محكوماً فى مراحله الأولى بالرعاية والدعم والإقراض والتمويل، وتزامن ذلك مع تزايد الاشتراك فى المهرجانات الدولية وإقامة المسابقات المحلية، وإنشاء أربعة معاهد فنية للسينما والباليه والفنون المسرحية والموسيقى كنواة لأكاديمية للفنون -بمساندة ودعم من عبدالناصر شخصياً لمقترحات د. ثروت عكاشة وزير الثقافة آنذاك وفقاً لما ذكره عكاشة فى مذكراته- لأن الرئيس كان يدرك أن إنشاء المعاهد الفنية ليس ترفاً، وأنه بهذا القرار يضع اللبنة الأساسية لمستقبل الفن، وثقافة المستقبل. فى غمرة قرارات التأميم التى صدرت فى بداية الستينات، ومن دون تريث أو دراسة اقتصادية كافية، وعقب عدد من القرارات التى فرضت الحراسة على بعض المنشآت السينمائية من استوديوهات أو دور عرض، تحولت المؤسسة المصرية العامة للسينما التى كان يقتصر دورها على الرعاية والدعم وتنشيط الجوانب الثقافية، إلى المؤسسة المصرية العامة للسينما والإذاعة والتليفزيون عام 1963 التى تولت الإشراف على أربع شركات سينمائية، فاضطربت أحوال السينما بسبب القرار غير المدروس بعناية، وأدّى ذلك بالمؤسسة فى ثوبها الجديد، وشركاتها المتعددة، إلى ممارسة الإنتاج والتوزيع وإدارة دور العرض بنفسها، وقد استمرت هذه التجربة التى عُرفت باسم «سينما القطاع العام» لمدة تسع سنوات (1963-1971) قدمت فيها 159 فيلماً. رأى البعض أن تجربة القطاع العام فى السينما لم تحقق سوى الخسائر والخراب، ومجموعة من الأفلام لا تقل تخلفاً عن سينما القطاع الخاص الاستهلاكية السائدة الفاسدة وأن هذا القطاع قام على أسس رخوة ومن دون خطة واضحة وأن تَعثُّره كلف الدولة خسائر جسيمة، بينما يرى كثيرون أنها أنجزت خلال عمرها القصير، فنياً وفكرياً، ما يفوق كل ما سبقه، وأن القطاع العام فتح آفاقاً جديدة ووفر فرصاً للعمل للمواهب من خريجى معهد السينما أو من خارجه، وقدم سينما جادة المضمون والهدف تسهم بفاعلية فى إشاعة الوعى الوطنى والقومى والاجتماعى بين الجماهير، كما يرى أن النتائج الثقافية لا تحسب عادة بمقياس الربح والخسارة، ويدلل هؤلاء على أهمية سينما القطاع العام برصد عشرات الأفلام من إنتاج هذا القطاع التى تشكل نسبة كبيرة من أفضل الأفلام فى تاريخ السينما منذ بداياتها فى العشرينات ويذكرون «المومياء» و«البوسطجى» و«شىء من الخوف» و«الأرض» و«الاختيار» و«المتمردون» و«يوميات نائب فى الأرياف» و«ميرامار» و«غروب وشروق» و«القضية 68» و«القاهرة 30» و«الحرام» و«مراتى مدير عام» و«المستحيل» و«الجبل» و«الزوجة الثانية» وغيرها من قائمة تضم أكثر من ثلاثين فيلماً اختيرت ضمن أفضل مائة فيلم مصرى خلال مائة عام من السينما. لقد أعطت ثورة 23 يوليو 1952 التى نحتفل بذكراها الحادية والستين الكثير للسينما فى مصر، فى الفترة من 1952 وحتى 1970 تاريخ وفاة عبدالناصر، فماذا قدمت السينما لثورة يوليو وكيف صوَّرت رجالها؟!