شاعر وفيلسوف صوفى، لا يقل فى شعره عن ابن الفارض، وتقترب فلسفته فى «وحدة الوجود» من الشيخ الأكبر محيى الدين ابن عربى والإشراقى العميق شهاب الدين السهروردى، يميل فى كتاباته إلى الغموض والرمز، منحازا إلى الإشارة قبل العبارة، والتلويح قبل التصريح، ومولعا بتقديم رؤيته الفلسفية فى أبيات شعرية، مثلما تنبئنا قصيدته المعروفة «النادرات العينية». ومثل كتاباته الفلسفية يتسم شعره بالغموض مع رهافته، حيث يميل إلى الصور المفتعلة والتراكيب المعقدة، الغارقة فى الاستعارة والتشبيه. ورغم مناداته بالعودة الدائمة إلى القرآن والسنة لأنهما الأصل والأساس لم يسلم الجيلى من تجريح خصومه، الذين ربما أساءوا فهم ما كتب، أو تعمدوا القدح فيه، واتهموه بأنه من المنادين بالحلول ووحدة الوجود، أو ربما لم يرق لهم ما طرحه من أفكار رمزية، واعتبروها تجديفا، أو خروجا على ما يرونه هم «الطريق المستقيم». هو عبدالكريم ابن إبراهيم الجيلى، يعود نسبه إلى الصوفى الكبير عبدالقادر الجيلانى. ولد ببغداد سنة 767 ه، ولقب ب«عفيف الدين» و«قطب الدين»، وقد سار على درب التصوف هاربا من الصراع السياسى الضارى، والسباق المتوحش على منافع الدنيا وملذاتها، فى ظل حكم التركمان. وقد اضطرته الظروف إلى أن يهاجر من بلد إلى آخر، وهو لا يجد ما يخفف من آلام نفسه، حتى استقر به المقام عند باب الشيخ إسماعيل بن الجبرتى فى مكةالمكرمة سنة 790 ه، فوجد لديه ما يريد، واتبع خطاه، وحين عاد شيخه إلى مسقط رأسه، وهى بلدة زبيد باليمن، لم يصبر الجيلى على فراقه، فشد الرحال وراءه، وجلس إليه منصتا، حتى تعلم وتربى على النحو الذى أراد. وفى أسفاره التى شملت الهند وبلاد البراهمة طالع الجيلى فلسفات شرقية، لاسيما تلك التى تتحدث عن «الكمال الإنسانى» وتأثر بها، وأعاد إنتاجها من منظور إسلامى، فرآها فى ضوء النص القرآنى والصوفى والأدبى، ولهذا نجد آثار تلك الفلسفات إلى جانب المعارف الإغريقية بتصوراتها ومصطلحاتها منعكسة فى كتب «الجيلى» أو فى مشروعه الذى ينطلق من أن المعرفة تمشى على عكازين، الأول هو العلم الضرورى لخواص الناس وليس لعوامهم، والثانى هو العلوم اللدنية التى تقوم على الإلهام والأذواق وما ينجم عن الإيمان العميق بالله سبحانه وتعالى. وقد أتقن الجيلى اللغة الفارسيّة، حين حط الرحال فى بلاد فارس، وبها ألّف كتابه الصغير «جنّة المعارف وغاية المريد والعارف». وهناك من يرى أن تأثر الجيلى بهذه الفلسفات الشرقية أو الأذواق والمواجيد الصوفية لا تعنى أنه كان يجنح بعيدا عما يؤمن به المسلمون عموما من أن أساس الإسلام وأصله الثابت هو القرآن الكريم والسنة، حيث يقول: «ثم ألتمس من الناظر فى هذا الكتاب بعد أن أعلمه أنى ما وضعت شيئاً فى هذا الكتاب إلا وهو مؤيد بكتاب الله أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه إذا لاح له شىء فى كلامى بخلاف الكتاب والسنة فليعلم أن ذلك من حيث مفهومه لا من حيث مرادى الذى وضعت الكلام لأجله فليتوقف عن العمل به مع التسليم إلى أن يفتح الله تعالى عليه بمعرفته، ويحصل له شاهد ذلك من كتاب الله تعالى أو سنة نبيه. وفائدة التسليم هنا وترك الإنكار أن لا يحرم الوصول إلى معرفة ذلك، فإن من أنكر شيئاً من علمنا هذا حرم الوصول إليه ما دام منكراً، ولا سبيل إلى غير ذلك، بل ويخشى عليه حرمان الوصول إلى ذلك مطلقاً بالإنكار أول وهلة، ولا طريق له إلا الإيمان والتسليم. واعلم أن كل علم لا يؤيده الكتاب والسنة فهو ضلالة، لا لأجل ما لا تجد أنت له ما يؤيده، فقد يكون العلم فى نفسه مؤيداً بالكتاب والسنة، ولكن قلة استعدادك منعتك من فهمه فلن تستطيع أن تتناوله بهمتك من محله فتظن أنه غير مؤيد بالكتاب والسنة، فالطريق فى هذا التسليم وعدم العمل به من غير إنكار إلى أن يأخذ الله بيدك». لكن هناك من يرى أن هذا محض ادعاء، ويقولون إن الجيلى «لم يضع فى كتابه شيئاً مطلقاً وافق الكتاب والسنة، بل جمع فيه من الكفر والزندقة أعظم من كل كفر الأولين والآخرين كيف لا وقد جعل كل من عبد شيئاً فى الأرض فما عبد إلا الله. بل زعم أنه ليس فى الوجود إلا الله، الذى خلق الوجود من نفسه لنفسه فليس هناك إلا هو فهو الرب والعبد، والشيطان والراهب، والسماء والأرض، والظلمات والنور، والحمل الوديع والذئب الكاسر». وفى نظرة أكثر عمقا، يجب الإقرار بأن الجيلى لم يقتصر على منهل واحد لمعارفه، فعلاوة على مطالعته للفلسفات الشرقية احتك فى رحلاته بمدرستين دينيتين أساسيتين فى العالم الإسلامى، ففى مكةالمكرمة التى وصلها أواخر سنة 799 ه، التقى بعض كبار المتصوفة، وأدار معهم حوارا عميقا حول مسائل عديدة، كما جلس إلى علماء الأزهر الشريف حين جاء إلى القاهرة سنة 803ه /1302م، وتبادل معهم النقاش فى أمور الدين، وبها أنجز كتابه فى علوم التصوّف المسمى «غنية أرباب السماع»، ثم غادرها متوجها إلى غزة. وفى العشرين من عمره التقى الجيلى بالفقيه جمال الدِين المكدش (ت 790ه / 1288م) وتلقى عنه العلم، وبعده جلس إلى فقيه آخر وشاعر هو أبومحمّد الحكاك، لكن يبقى الجبرتى، شيخ الطريقة القادرية، هو الأكثر تأثيرا فى الجيلى، حيث حببه فى الذكر والسماع والمجاهدات الروحية. وعقب وفاة الجبرتى تولى مشيخة الطريقة خليفته أحمد بن أبى الرداد، فلازمه الجيلى سنوات، وتأثر بطريقته الفلسفية فى التصوف. وطيلة رحلته العلمية وضع الجيلى ما يزيد على ثلاثين مؤلّفاً، فى مختلف المواضيع الصوفيَّة والفلسفيَّة. منها ما رأى النور وتداوله الناس، ومنها ما لا يزال مخطوطاً مركونا على أرفف المكتبات. ومن أهم هذه الكتب: «المناظرات الإلهية» و«الكهف والرقيم» و«جنة المعارف وغاية المريد والعارف» و«القاموس الأقدم والناموس الأعظم» و«القصيدة العينية» و«قطب العجائب وفلك الغرائب» و«مراتب الوجود» و«الكمالات الإلهية فى الصفات المحمدية» و«لوامع البرق الموهن» و«شرح الفتوحات المكية وفتح الأبواب المغلقات من العلوم اللدنية» و«كتاب الإنسان الكامل فى معرفة الأواخر والأوائل». ويصف الجيلى تجربته الصوفية فى ثلاثة أبيات من الشعر، تبين أنه من كبار العاشقين الهائمين الذائبين فى ربهم، وأن له تجربة فى هذا الصنف من الهوى يعجز عن قراءتها وفهم أسرارها حتى أهل الاختصاص، فها هو ينشد: لى فى الغرام عجائب.. وأنا وربك ذو العجائب قطبى يدور على رحى.. فلك تدور به الغرائب رمزى الذى فى الهوى.. أعيا قراءة كل كاتب ولا يكتفى الجيلى بالشعر تعبيرا عن فلسفته، بل يذهب فى مشاهداته إلى رسم لوحات فنية بديعة، تعكس ما يزعم أنه قد رآه بعينه وعايشه بنفسه، وهى قطع أشبه بما يبدعه كتاب «الواقعية السحرية»، وما تحفل به الملاحم والسير والأساطير الشعبية. فها هو يقول عما يسميها مشاهداته فى السماء: «ثم إنى رأيت ملائكة هذه السماء مخلوقة على سائر أنواع الحيوانات فمنهم من خلقه الله تعالى على هيئة الطائر وله أجنحة لا تنحصر للحاصر، وعبادة هذا النوع خدمة الأسرار ورفعها من حضيض الظلمة إلى عالم الأنوار، ومنهم من خلقه الله تعالى على هيئة الخيول المسومة، وعبادة هذه الطائفة المكرمة رفع القلوب من سجن الشهادة إلى فضاء الغيوب، ومنهم من خلقه الله تعالى على هيئة النجائب وفى صورة الركائب، وعبادة هذا النوع رفع النفوس إلى عالم المعانى من عالم المحسوس، ومنه من خلقه الله تعالى على هيئة البغال والحمير!! وعبادة هذا النوع رفع الحقير وجبر الكسير والعبور من القليل إلى الكثير ومنهم من خلقه الله تعالى على صورة الإنسان وعبادة هؤلاء حفظ قواعد الأديان، ومنهم من خلق على صفة بسائط الجواهر والأعراض وعبادة هؤلاء إيصال الصحة إلى الأجسام المراض، ومنهم من خلق على أنواع الحبوب والمياه وسائر المأكولات والمشروبات، وعبادة هؤلاء إيصال الأرزاق إلى مرزوقها من سائر المخلوقات، ثم إنى رأيت فى هذه السماء ملائكة مخلوقة بحكم الاختلاط مزجاً، فالنصف من نار والنصف من ماء عقد ثلجاً، فلا الماء يفعل فى إطفاء النار ولا النار تغير الماء عن ذلك القرار». ويعطى الجيلى القلب مكانه، ويربط الإيمان به، ويراه الأصل، بينما العالم كله الفرع، ويرى أن معرفة الإيمان مطلقة، لأنها متعلقة بالأسماء والصفات، وأن معرفة العقل متعلقة بالآثار، ويقول إن القلب يسع ثلاثة أشياء، أولها: وسع العلم، الذى يبلغ نهايته بمعرفة الله، إذ لا شىء فى الوجود يعقل آثار الحق ويعرف ما يستحقه أكثر من القلب. وثانيها: وسع المشاهدة، حيث يمتلك القلب الإلهام الذى يمكنه من الاطلاع على محاسن الله، فيذوق لذّة أسمائه وصفاته بعد أن يشهدها. وثالثها وسع الخلافة، وتعنى التحقق بأسماء الله وصفاته، حتى إنه يرى ذاته ذاته، فتكون هوية الحق عين هوية العبد، فينطلق فى الوجود متصرفا فيه تصرف الوارث فيما ورثه. وتدور فلسفة الجيلى فى جزء منها حول مذهب وحدة الوجود، لكنه يطرح هذا بطريقة يمتزج فيها التصوف بالعلم، والعقل بالحدس، والبرهان بالعرفان، لينطلق من أنه لا وجود فى الكون لغير الله، والإنسان جزء منه أو هو صورة من صور الله. والله عين الموجودات، وكلّ ما يفعله الإنسان هو فعل الله سبحانه وتعالى. وكان للجيلى نظرة إلى الأديان غير السماوية تستحق النظر والتدبر، إذ كان يرى أن أتباع هذه الديانات يعبدون الله أيضاً، لكن على طريقتهم الخاصة، ويطلقون على الله أسماء وصفات تقترب من تلك التى وردت فى الكتب السماوية، بل تتطابق معها أحيانا، من حيث الرحمة والجلال والقدرة. وفى حوار دار بينه وبين أهل الصوفية فى مكة حول اسم الله الأعظم، الذى لا يعرفه إلا أولياء الله وقد اتّفقوا أنّ اسم الله الأعظم «هو». فجادلهم الجيلى بقوله «هو» اسم إشارة إلى الغائب. أما الله فهو حاضر فى كل ما حوله. وفى هذا ما يدل على أن الجيلى وصل إلى معنى أعمق فى إدراك كنه الله، الخالق البارى، من ذلك الذى كان يفهمه مشايخه. ويبقى من أهم ما تركه الجيلى هو كلامه عن «الإنسان الكامل» فى كتاب حمل الاسم ذاته، ألفه فى ذروة نضوجه الفكرى، وبعد اكتمال تجربته الروحية، فحوى أسرارا من العلم اللدنى، وصار سبب ذيوع صيت صاحبه فى الأوساط الصوفية، لا سيما أنه تناول مقامات الأولياء أو أهل الله وخاصته، ثم شرح مقام الإنسان الكامل الذى هو فى نظره «القطب الذى تدور عليه أفلاك الوجود من أوله إلى آخره، وهو واحد منذ كان الوجود إلى أبد الآبدين»، ويرى أن الرسول الكريم نموذج عظيم للكمال الإنسانى، فهو الإنسان الكامل بالاتفاق وليس لأحد من الكمل ماله من الخلق والأخلاق، وأن الأولياء هم النماذج البشرية الأقرب إليه. ويمدح الجيلى كمال الرسول فى قصيدة طويلة تنتهى بالأبيات التالية: الله حسبى ما لأحمد منتهى وبمدحه قد جاءنا فرقانه حاشاه لم تدرك لأحمد غاية إذ كل غايات النهى بدآنه صلى عليه الله مهما زمزمت كلم على معنى يريح بيانه والآل والأصحاب والأنساب والأقطاب قوم فى العلا إخوانه ثم يستفيض فى شرح خصائص هذا الصنف من البشر فيقول: «الإنسان الكامل مقابل لجميع الحقائق الوجودية بنفسه، فيقابل الحقائق العلوية بلطافته، ويقابل الحقائق السفلية بكثافته، فأول ما يبدو فى مقابلته للحقائق الخلقية يقابل العرش بقلبه، قال عليه الصلاة والسلام (قلب المؤمن عرش الله) ويقابل الكرسى بإنيته، ويقابل سدرة المنتهى بمقامه، ويقابل القلم الأعلى بعقله، ويقابل اللوح المحفوظ بنفسه، ويقابل العناصر بطبعه، ويقابل الهيولى بقابليته، ويقابل البهاء بحيز هيكله، ويقابل الفلك الأطلس برأيه، ويقابل الفلك المركب بمدركته، ويقابل السماء السابعة بهمته، ويقابل السماء السادسة بوهمه، ويقابل السماء الخامسة بهمه، ويقابل السماء الرابعة بفهمه، ويقابل السماء الثالثة بخياله، ويقابل السماء الثانية بفكره، ويقابل السماء الأولى بحافظته.. . ويقابل القمر بالقوى السامعة، ثم يقابل فلك النار بحرارته، ويقابل فلك الماء ببرودته، ويقابل فلك الهواء برطوبته، ويقابل فلك التراب بيبوسته، ثم يقابل الملائكة بخواطره، ويقابل الجن والشياطين بوسواسه، ويقابل البهائم بحيوانيته، ويقابل الأسد بالقوى الباطشة، ويقابل الثعلب بالقوى الماكرة، ويقابل الذئب بالقوى الخادعة، ويقابل الفرد بالقوى الحاسدة، ويقابل الفأر بالقوى الحريصة، وقس على ذلك بقية قواه، ثم إنه يقابل الريح بالمادة الدموية، ويقابل التراب بالمادة السوداوية، ثم يقابل السبعة الأبحر بريقه ومخاطه وعرقه ونقاء أذنه ودمعه وبوله.. . ويقابل الجوهر بهويته وهى ذاته، ويقابل العرض بوصفه، ثم يقابل الجمادات بأنيابه، فإن الناب لا يلتحم بشىء، ثم يقابل الناب بشعره وظفره، ويقابل الحيوان بشهوانيته، ويقابل مثله من الآدميين ببشريته وصورته، ثم يقابل أجناس الناس، فيقابل الملك بروحه». وفى كتابه «عبدالكريم الجيلى فيلسوف الصوفية» يمدح د.يوسف زيدان نظرية «الإنسان الكامل» تلك، ويرى أن الرجل نجح فى أن يعرضها بشمول وبساطة رغم عمقها وتجريدها. ويرى أن هذا الإنسان هو الولى، عند الجيلى، وهو شخص داوم على ممارسة رياضة روحية ومجاهدة نفسية حتى قربه الله إليه واجتباه، وتجلى عليه بذاته. وحتى يصل الإنسان إلى هذا المقام الرفيع فعليه أن يمر بثلاث مراحل، أو بمعنى أدق برازخ، الأول هو التحقق بالأسماء والصفات الإلهية، فينزع عن نفسه الخصال السيئة كالبخل والجبن ويستبدل بها خصالا حميدة كالكرم والشجاعة. والثانى هو إفاضة الحقائق الإلهية على الإنسان، وهى جليلة لا تكاد توصف، والثالث هو بلوغ مقام «كن» الذى يعنى الإتيان بأمور تبدو عجيبة على سائر الخلق، وخرق العادات التى ألفها البشر، وهى ما تسمى بالكرامات. وبعد رحلات وأسفار طويلة استقر المقام بالجيلى فى زبيدة باليمن، وفيها لقى ربه. واختلف الناس فى تحديد تاريخ وفاته، فأقر البغدادى فى «الهداية» أنه توفى سنة 828ه، فيما يقول حاجى خليفة فى كتابه «كشف الظنون» أن تاريخ الوفاة هو 805ه. وبينما يؤكد البعض أن مدفنه كان فى اليمن، يقول آخرون إن مدفنه فى بغداد، وله فيها قبر يزار.