تأدية الصوات فى مواقيتها وبدء الحديث بالسلام على الرسول الكريم هو مبلغ، ومنتهى، تمسُّك حكام مصر من اليمين المتأسلم بالإسلام العظيم. وفى كثير من الأحيان تبدو هذه التصرفات مجرد غطاء لسلوك يناقض قويم الإسلام بارتكاب معاصٍ، بل وكبائر. يتعرض هذا المقال لثلاثة مشاهد من فساد أولى الأمر الجدد فى مصر، الوزراء ورئيسهم الزخرفى. وأتعشم ألا يحاج أحد بأن حجم الفساد، الذى أناقش هنا، صغير بالمقارنة بما كان يجرى فى وقت سابق، فالفساد كعلة مجتمعية دائماً يبدأ صغيراً ثم ما يلبث أن ينفلت ويستفحل إن تُرك دون ضبط أو ردع. الطاغية المخلوع «مبارك» كان يقول إنه يعيّن الوزراء من بين الأثرياء حتى تكون «عينهم مليانة» ولا يسرقوا. ولكن كما نعلم جميعاً الآن، أن كون بعضهم أثرياء أصلاً لم يمنعهم من اقتراف جناية الفساد، فقط كان حجم فسادهم ضخماً. فجوهر مسألة الفساد وجود نسق مجتمعى وبنى قانونية ومؤسسية تسمح بالفساد، إن لم تزيّنه، وتسمح بالإفلات من العقاب عليه. ولكن الثابت الآن أن أولاد الغلابة عندما تمكّنوا من الحكم أفسدوا هم أيضاً، لأن بنى الفساد ما زالت قائمة وجراثيمه نشطة. المشهد الأول مستمد من مقال للصحفية الرائعة أميمة كمال، وفحواه أن الرئيس الحاكم جاء فى الترقيع الحكومى الأخير بوزير للتجارة والصناعة كان يرأس شركة لتصنيع الألبان. ولا غضاضة حتى الآن. كل المسألة أن السيد الوزير كان متهماً وقت تعيينه بالاحتكار فيما عُرف بقضية احتكار الألبان التى طالت الشركات الثلاث الرئيسية فى الصناعة. تصور، كلهم محتكرون فيما يُعرف فى علم الاقتصاد باحتكار القلة ومؤداه أن تتحالف عدة مشروعات لاحتكار السوق فيما بينها، لتعظيم أرباحها على حساب المستهلكين المساكين. وتتضمن طرقهم رفع الأسعار سوياً بالنسبة نفسها، وتقليل الكمية المبيعة بالسعر نفسه، والانحطاط بالجودة مع الإبقاء على السعر والكمية. وعلى سبيل المثال، فقد رفعت شركات الألبان جميعاً سعر عبوة «الزبادى» المعتادة مؤخراً من 150 إلى 175 قرشاً، أى بنسبة السدس أو 16.5%، فى اليوم نفسه، دون أى مبرّر أو حتى اعتذار للمستهلكين. لاحظ أنهم ينفقون الملايين على الإعلانات فى التليفزيون، وكلهم يعلنون فى الوقت نفسه، فى القنوات ذاتها، وبمناسبة البرامج نفسها، فلماذا لا يوفرون أموال الإعلان ويمتنعون عن رفع الأسعار؟ إنه الاحتكار الدنىء! وبوجه عام، فإن الاحتكار مدمر للكفاءة والعدالة، كلتيهما. ولذلك تعد مقاومة الاحتكار وحماية المنافسة من شروط الكفاءة الاقتصادية والعدالة الاجتماعية سوياً. وفى جميع النظم الرأسمالية الناجحة تتولى وزارة التجارة والصناعة، أو ما يقابلها من أجهزة الحكومة، مهمة محاربة الاحتكار. وعلى الرغم من سوءات نظام الحكم الذى قامت الثورة الشعبية العظيمة لإسقاطه ولم تفلح بعد، فقد ترك لنا جهازاً لمكافحة الاحتكار يقع تحت سلطة وزير التجارة والصناعة. صحيح أنه جهاز مهيض الجناح والقانون المنظم له جرى تقليم أظافره بواسطة عتاة المحتكرين الذى انتموا إلى عصبة حكم الفساد والاستبداد السابقة، ولكنه قائم على أى حال. المأزق الذى ترتب على اختيار أولى الأمر فى سلطة اليمين المتأسلم الحاكمة لهذا الوزير فحواه أن وضع متهم بالاحتكار على رأس الجهاز الذى اتهمه، وكان قد أحال الأمر إلى النيابة المختصة، ومن ثم كان الوزير متهماً بجريمة يفرض عليه واجب الوزارة التى سيتبوأها أن يحاربها لو أخلص للوطن والدين ولمبادئ الاقتصاد الرشيد. إذن أعطى «القط مفتاح الكرار» كما يقول العامة. وهنا جاء دور رئيس الوزراء قليل الحول والحيلة فيما يصلح حال البلد وأحوال الشعب، والذى يصلى الفجر حاضراً فى تظاهر بالتقوى والصلاح، وارتكب فعلاً لا يمكن تكييفه إلا باعتباره من أفعال الاحتيال والنصب، فنقل تبعية جهاز مكافحة الاحتكار لرئيس الوزارة، أى له شخصياً. وبهذه الصفة تصالح مع الوزير المعيّن لقاء دفع غرامة تافهة بالمقارنة بالجرم. ولكى يغطى على الفعل المشهود، تصالح مع باقى المحتكرين بالأسلوب نفسه، وتبعته النيابة المختصة المطيعة بإسقاط التهم عنهم جميعاً فى اتباع لأسلوب فى الحكم غير الرشيد تتبنّاه سلطة اليمين المتأسلم بالتصالح مع المجرمين فى حق الشعب لقاء فُتات مما نهبوا من عرق الشعب ودمه. وهكذا غسل رئيس الوزارة المتظاهر بالتقوى جرائم الاحتكار، ليس فقط للوزير المتهم ولكن لجميع المحتكرين المتآمرين معه، واعتمد جريمة الاحتكار، التى يجب أن تعد مخلة بالشرف، ركناً للاقتصاد السياسى لليمين المتأسلم، ولتذهب مصلحة الاقتصاد والشعب للجحيم. وفى النهاية أصبح الوزير الذى تصالح معه رئيس الوزارة دون أن تثبت براءته من تهمة الاحتكار، واسمه للغرابة «صالح»، يجلس الآن على قمة الوزارة التى يتبع لها جهاز «حماية المنافسة ومنع الاحتكار»!! المضحك المبكى أن رئيس الوزراء هذا قد صرّح قائلاً: «سأستقيل عندما لا أستطيع أن أقدّم لمصر ما أقدمه الآن». إذن سيستقيل عندما يتوقف عن الفشل فى رئاسة الوزارة فى هذه الحقبة الحرجة وعن تدمير مستقبل البلد وزيادة تعاسة المصريين بحرمانهم المتزايد حتى من الأساسيات مثل الكهرباء والماء، ناهيك عن الزاد الضرورى لكثرة من المصريين. فرجاء يا من من تدّعون السير على نهج الرسول الكريم خاتم المرسلين، أن ارحمونا من فسادكم اللعين. مشهد الفساد الثانى هو ما أسميه وزراء البِطنة، أو بالعامية البليغة وزراء الدناوة أو المفاجيع، فكثرة من وزراء سلطة اليمين المتأسلم، بتعبير الطاغية المخلوع «عينهم فارغة» ونهمين للطعام المشترى من المال العام، أى من عرق الشعب المسكين ودمه. أفلت من الرقابة فى «الأهرام» مرة، ثم أخفى، خبر أن وزير التموين باسل عودة، الذى يعتبرونه درة وزرائهم، ينفق 60 ألف جنيه فى الشهر من المال العام على غذائه هو وبطانته من الساندوتشات، أى ما يقارب ثلاثة أرباع مليون جنيه فى العام. تصوّر، ألفا جنيه فى اليوم الواحد من المال العام. كم ساندوتشاً من الفول تشترى؟ يمكن أن تشترى 1500 ساندوتش فول تسد رمق 300 أسرة، كل منها مكوّنة من خمسة أفراد من المستضعفين، يلهفها الوزير وبطانته كل يوم. ولكنهم طبعاً لا يأكلون الفول طعام الشعب المبتلى، كما نستدل مما يتردّد عن فواتير الجمبرى والاستاكوزا الخرافية للقصر الرئاسى، وأكاد أجزم أنهم لا يعرفون «الفواجراه»، لنقل إذن إنها ساندوتشات جمبرى كبيرة يكلف الواحد منها حوالى عشرين جنيهاً مثلاً. إذن الوزير والبطانة يلهفون مائة ساندوتش جمبرى فى اليوم من أموال الشعب، خلاف المرتبات والمخصصات والمزايا الأخرى من المال العام، من عرق الشعب المسكين ودمه. مطرح ما تسرى.. ولماذا لا يأكلون من بيوتهم ودخلهم ليس بالقليل؟ ولماذا لا يكتفون بكسرة خبر مما يفرضون على الشعب المسكين وقطعة جُبن إن لزم أن يأكلوا على حساب الشعب؟ أم أن المال العام سائب ومستباح؟ ويبدو أن هذا مضمار نكِد يتبارى فيه وزراء اليمين المتأسلم، فوزير الاستثمار العاطل عن أى مقومات مقنعة للمنصب، كشف عن قلة درايته بشئون الوزارة التى أقطعت له بتعيين 18 مستشاراً فى أقل من شهرين، وهم طبعاً من الأهل والعشيرة المبشرين بالمرتبات الضخمة، فمكافآت المستشارين هى سرطان موازنة حكومة مصر، فى ظل حكم الاستبداد والفساد. أما فى مباراة الساندوتشات، فقد أنفق عليها وزير الاستثمار من المال العام أكثر من 33 ألف جنيه فى أسبوعين، أى ما يقارب المليون جنيه فى السنة. وزاد عليها أن طلب تأثيث حجرة نوم فاخرة تُلحق بمكتبه، حدد أن تُشترى من محل أثاث يملكه رجل الأعمال حسن مالك من جماعة الإخوان الخدّاعين. ولما امتنع المدير المالى للوزارة عن الموافقة على هذا الإنفاق المبذر والسفيه، عاقبه الوزير الهمام. والمشهد الثالث أمدنى به وزير الثقافة المغمور ثقافياً، ولكن المتأسلم، الذى غزا الساحة الثقافية المصرية كالثور الهائج فى متحف للبلور، مما استدعى اعتصاماً من المثقفين المصريين بمقر الوزارة، دخل وقت الكتابة أسبوعه الثالث. الأهم أنه ادعى أنه يحارب الفساد، لكنه قام بتخصيص آلاف من المال العام للاستعانة بصحفيين من قناة «25» الإخوانية وجريدة حزب الإخوان، ومبلغ كبير آخر لزيادة أفراد حراسته، وقام بتكليف شركة خاصة لتغيير زجاج نوافذ مكتبه بزجاج مصفّح. والمدهش حقاً موضوع النوافذ المصفّحة هذا. أيزمع المونتير الضعيف خوض حرب بالقذائف؟ وألا يؤمن بأنه «قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا»؟ أو أن الإسلام عنده مجرد مطية للمنصب الذى لم يكن يحلم أحد، فى أسوأ الكوابيس، أن يحتله مثله. أو أنه يخشى أن تطلق عليه قذائف تشوّه حُسن طلعته؟ وهنا يجب عليه ألا يخشى شيئاً ويوفر تكلفة النوافذ المصفّحة لمشروعه الثقافى، إن وجد! أخيراً يجب التنبُّه إلى أن هذه المشاهد، كالعادة تحت نظام حكم يبيح الفساد ويحميه، ليست إلا قمة جبل الجليد الطافى، وما خفى كان أعظم. فى ختام معاناة المشاهد النكدة أود أن أتساءل: بماذا تنفع صلاتهم، ولم تنههم عن المنكر والبغى؟ ألا بئس المصلين! فى النهاية، أتمنى على المستشار الجليل هشام جنينة، رئيس الجهاز المركزى للمحاسبات أن ينفّذ فعلاً كلامه المنمّق والرصين عن مكافحة الفساد فى الحكومة الحالية، وألا يخيّب الظن فيه كما فعل بعض من سابقيه من تيار استقلال القضاء قبل الثورة الشعبية العظيمة.