المخرج العظيم يدير كل شىء من غرفته المظلمة، يعاونه رجال مخلصون، تختلف مسمياتهم، فمنهم إخوانيون وسلفيون ويساريون وليبراليون وثوريون و«مجلسون عسكريون»، والحق أنه على اختلاف انتماءات طاقم الإخراج، فإن الأحداث كانت منسجمة ولم تحدث يوماً أزمة تضطر فريق العمل إلى تعديل السيناريو. كل شىء حولك، حقيقى وكاذب فى الوقت نفسه، كل ما تدركه حواسك، موجود وغير موجود فى الوقت نفسه، أنت كائن مصنوع فى عالم مصنوع، تسير وفق خطة لا تعرفها، ولا شىء يخرج على السيطرة حتى إن تخيلت غير ذلك. أنت الضحية والبطل، والعالم كله يتفرج عليك. هذه باختصار فكرة فيلم «ترومان شو»، أو استعراض ترومان، على قناة من تليفزيون الواقع، تتناول حياة إنسان منذ لحظة ولادته، ترصد الكاميرات كل تحركاته فى مدينة صغيرة على جزيرة تحيطها المياه من كل جانب، ليست الجزيرة سوى استوديو ضخم وكل البشر الذين يظهرون فى الأحداث مجرد كومبارس، يعرفون أنهم كومبارس يتقاضون أجورا عن تمثيل أدوارهم، إلا «ترومان» فهو البطل وفى الوقت نفسه المغفل الكبير الذى صنع له المخرج أقداره، نقل للناس حياته فى أدق تفاصيلها، حتى جاء اليوم الذى اكتشف فيه ترومان أنه المغفل الكبير، فقرر أن يغادر الجزيرة -الاستوديو- لعيش الحياة الحقيقية. فى «ترومان شو» كان الضحية البطل شخصا واحدا والمدينة كلها كومبارس، وفى «استعراض مصر» ما يزيد على 98% من الشعب يجسدون شخص البطل الضحية، والكومبارس الممثلون مع طاقم الإنتاج والإخراج والتصوير، لا يزيدون على 2%. فيلم «استعراض مصر»، يستحق لقب الأضخم والأعظم تكلفة فى تاريخ مصر، فالديكورات بحجم وطن بكامله يحده السودان جنوبا وليبيا شرقا والبحران المتوسط والأحمر شمالا وشرقا، ولم يتأثر المنتج الكبير بأى خسائر جانبية طوال فترة التصوير، فالخسائر توقفت عند حد مئات الشهداء، والشهداء بشر، وما أرخص البشر فى السينما. والأبطال جميعا أدوا أدوارهم ببراعة، حتى لم نعد نستطيع التفرقة بين الحقيقة والخيال فى كل الأحداث، لدينا 98% من الشعب، أجادوا الاستسلام للخدعة التى لن يعرفوها أبدا، والكومبارس الموظفون الذين يعرفون الخدعة كانوا أكثر عبقرية، فهم صادقون فى إيهام المتفرجين أنهم لا يعرفون الخدعة. ولا يمكن أن نتحدث عن فيلم «استعراض مصر» دون أن نوجه الشكر الجزيل، إلى المخرج وطاقمه العظيم، فهذا الرجل الذى لم يره أحد أبدا، يدير كل شىء من غرفته المظلمة، يعاونه رجال مخلصون، تختلف مسمياتهم، فمنهم إخوانيون وسلفيون ويساريون وليبراليون وثوريون و«مجلسون عسكريون»، والحق أنه على اختلاف انتماءات طاقم الإخراج فإن الأحداث كانت منسجمة ولم تحدث يوما أزمة تضطر فريق العمل إلى تعديل السيناريو. كل شىء هنا غير حقيقى، باستثناء الدم الطيب الذى سال دون قصد من أصحابه، لا شىء حقيقى: الوجوه والضحكات والصرخات والدموع والشوارع والميادين والشرفات والمقاهى والحكومات والبرلمانات والرئاسات والمطاعم والأحياء الشعبية والراقية والأغنياء والفقراء والأغانى والموتى والمواليد والبنوك والشركات ومصابيح وأقمار الليالى وشموس النهارات وأزمات البنزين والسولار والبوتاجاز والمرور والانفلات الأمنى والفلول ومبارك وعلاء وجمال وسوزان ومحمد محمود وماسبيرو والتحرير وسوق البورصة.. ابتسم أنت فى «مصر شو».