للإسكندرية شمس شتوية لا يصدقها من يراها من شدة دفئها، عزيزة.. نعم عزيزة، ولكنها حينما تظهر تحيرك؛ أتلك السماء التى تستضيفها هى ذات السماء التى أظلمت فى عز الظهر يوم النوة وزامت فيها الرياح طويلاً! ارتديت دولابى كله وذهبت للكورنيش، أعشق تلك اللحظة التى تهطل فيها الأمطار فجأة فلا تدرى أهى ساقطة من السماء أم البحر. فى هذا الوقت من السنة تعتصر النوة مدينتى، أفتقد فى مدينتى كل شىء فى مدينتى حتى النوة، ارتديت دولابى كله ورغم الطبقة السميكة التى تعلو صدرى، شعرى المجعد الذى اجتهدت فى فرده وجعله منسدلاً تضرر من اليود كثيراً، لم يكن يتضرر كذلك قبلاً؛ إذن هو يود اصطناعى ورطوبة غير طبيعية مصدرها ذرات ماء تبخرت من البحر من الملل، أو لعلها افتقدت الدفء، ففرت باحثة عنه فى سماء الله الواسعة، لو بيدى لحذرتها ونصحتها أن تبقى؛ حتى لا يصدمها التطور إذا عادت. شعرى يستوجب الذهاب للكوافير، لاقى ذلك فى نفسى البردانة هوى وجسدى المرتعش أملاً فى الدفء، محل الكوافير.. وسعاد الكوافيرة، هما مسمار جحا الذى جئت بحجته، كم أفتقدها وأفتقد خلية النحل التى تديرها لا لأجل المال، وإنما لأجل الرضا.. لمن يرضى؛ لترضى هى عن نفسها بأن تسهم فى رضا نساء عن أنفسهن، أن تبرز جمالهن الداخلى على وجوههن وشعورهن حتى تواجهن العالم وخزاناتهن للثقة ملأى عن آخرها؛ فلا تحملن عبء أن يفسر أحدهم شخصياتهن بوجه لا يعبر عنهن مطلقاً.. للأسف ذلك «الدفا» لم يعد له وجود هناك بعد التكييف المركزى الذى تم تركيبه فى المكان ضمن جملة تغييرات، أنا لا أزعم أن الدفء سببه كان عدم وجود تكييف، إنما لعله ساهم، ماتت سعاد لتدير أختها الصغرى المحل، «سعاد الصُغيرة» كما كانوا ينادونها فتشتاط غضباً؛ هم من عائلات تعتز باسم الأم فتسمى به البنات جميعاً، لتسمى هى نفسها «رشا» تارة، و«مروة» تارة أخرى، فيرتبك جميع المنادين وينادونها «سعاد الصغيرة»، وأتمسك أنا بأن أناديها كما تريد، ليس حرصاً على مشاعرها؛ وإنما لأنى كنت أعتبر «سعاد» صفة وليس اسما، صفة فى غاية الرقى لا تستحق أن توصف بها؛ فهى لا تعدو على كونها «رشا» أو «مروة»، وما أنا بمضطرة لنفاقها خاصة وإن كانت لن تقدر. كم شاهدتها تعارض أختها الكبرى فى أواخر أيامها على طريقة إدارتها للمحل وتنعتها بال«بيئة» التى تمنع بنات العجمى وزيزينيا وفيكتوريا الراقيات من زيارته، حتى اسم المحل كانت تتهكم عليه وتقول: «أحسن تسمية حلاق سعاد للسيدات»، واسمه أحلى ما فيه «صالون الجمال»، فكان أول ما غيرت بعد موت أختها، لتمسخه مسخاً «سوسو بيوتى سنتر».. لا أعلم كيف ماتت سعاد؟ ولا إلام آل ما كانت تحلم به؟ لا أعلم إذا كان تمسحها بشبابيك الأطباء وتبركها بأعتاب عياداتهم سنوات عشراً قد رق لها أخيراً؛ فتحرر من أحشائها جزءاً ليسرى على الأرض ويخلد ذكر مصدر الدفء السكندرى؟ لو لم يحدث لفقدت الإسكندرية آخر فرصها فى عودة دفئها القديم وشمسها الخالية، وفقدت أنا آخر فرصى فى الدفء.. «آنسة.. هو السيشوار شغال؟»، كنت قد استسلمت لهذا السيشوار الأنيق من ربع ساعة وخلاياى ما زالت ترتعد من البرد، بل زاد غسيل شعرى الحالة سوءاً، تأكدت البنت من أنه يعمل لتقول لى: «شغال من ربع ساعة وقرب يخلص»، رجوتها أن تتأكد فبدأت تشرح لى تقنية معقدة ملخصها أنه لفائدة معينة فى الأغلب متعلقة بفروة الرأس وتوفير الطاقة يعمل هذا السيشوار على تسخين الشعر فقط ويركز كل قوته عليه، وبالغت فى سرد أهمية ذلك، وتأثير السخونة البالغ الضرر على بصيلات الشعر وإتلافها لمنابته.. إلى آخره من كلام يحسن الكوافيرات حفظه ويفشلون فى فهمه، وأمسكت لسانى فجأة قبل أن أنهرها «ومين قال إن دى وظيفة السيشوار؟»، حتى لا تنعتنى فى سرها ب«الولية المجنونة»، فهى من أولئك اللاتى تجدن أدب القرود، الذى لا يسمح لها أن تنعتنى بذلك إلا سراً.. كانت الفورمة التى صنعت لى جد محكمة، ولكنها مقيتة، لم يكن فيها وجه للنقد إلا أننى لم أحبها، الأمر الذى زاد حنقى أنها ليست لى، لو أنها تليق للنساء جميعاً لكنت أنا الاستثناء الوحيد، أحدث موضة.. ويحهم يهدمون ما بنت عليه سعاد المكان، ويحهم يخلطون أوراق البشر ويعبثون بأقدارهم، ويحهم يزيدون مرارة سعاد فى مثواها ويؤصلون إحساسها بالخواء.. أكانت حقاً قلعة الدفء خاوية؟ وعشنا دوماً نتوهم أنها الملاذ الذى ندخره، ولما لم تزد عنا، وأسقطها الغزاة وفتحت أبوابها على مصاريعها وبرزت أحشاؤها الخاوية هل نتخلى عما اعتقدناه زمناً؟ هل نقوى على العيش بذلك الفراغ الذى خلفته فى مشاعرنا؟ هل سنتحمل حقيقة أن قلعتنا كانت عاقراً!!! لا أعرف حقاً.. لم أطق هذا الخاطر، وتملكنى غيظ ورغبة عارمة فى الصراخ والزعيق، لا أتذكر حقيقة ما تفوهت، وإن كنت أتذكر طراطيش كلام.. لم أدر كم استمرت نوبتى الهستيرية تلك، ولا ما ظنت بى العاملات والزبونات، الجو مغرق فى البرودة والتكييف المركزى يمعن فى استفزازى ويقول لى: «مهما فعلت.. لن يدفأ جسمك» بعد فترة بدأت أيأس وأسكن رويداً رويداً.. و.. و.. و.. و.. سقطت. حل دفء مفاجئ، وامتلأ الفراغ الذى استفحل فى المكان، واختلط الخيال بالحقيقة.. جاءت فتاة فى هيئة ملكية بدت فى حضرتها الموجودات وصيفات، سجدت الفتاة على ركبتيها حيث أرقد ورأيت وجهها من خلف جفونى، ورغم أنى أراها وأتبين رعبها علىّ، لم أفتح عينىّ لأطمئنها؛ كى لا تفجرها رموشى وتتناثر ذرات فى الهواء كفقاعة صابون نغتالها بتسرعنا؛ إذ آمنت قوى الإيمان بأنها خيال لا شك.. كانت سعاد وقد ردت إلى صباها تبثنى بعضاً من دفئها، أأكون قد مت ولهذا أراها رأى العين؟ فزعت لهذا الخاطر، ففتحت عينى بسرعة لأتبين حقيقة الأمر، لأجدها كائنة فى الحقيقة.. سعاد لم تبعث مرة أخرى، ولا أنا مت، ولكنها سعاد الصغيرة حقاً، قلب سعاد الكبيرة الدافئ برمته يسرى على الأرض ولم يحتل إلى تراب.. «أقفلوا التكييف دة شوية.. الجو مش محتاج» قالتها وهى تطمئن على وترتعش، صحيح أن موهبتها فى الدفء لم تصقل بعد، ولكن الدفء فطرى أصيل فيها. - «ألف سلامة عليكى.. معلش الفورمة باظت» - «أحسن كدة.. لم ترق أبداً لى» - «صراحة.. ولا أنا» ربتت الصغيرة على راحتى وساعدتنى على الوقوف.. وتولت تصفيف شعرى بالسيشوار القديم الذى احتفظت به للذكرى، صنعت لى فورمة تشبهنى تماما، وودعتنى إلى باب المحل بابتسامة دافئة.. تماما كما كانت تفعل سعاد.