الألعاب النارية تضوى فى السماء، طبيعة المولد تبدلت، سماعات ال«دى جى» تصدر أغانيها الشعبية التى يتراقص على أثرها الصبية، فتخالط تلك الصادرة من ميكروفونات قديمة تصدح بالتواشيح والأذكار، بينما تختلج مشاعر «الحبيبة» فى طرقات المكان بأحاديث الشباب السياسية بشأن الأحوال العامة للبلاد على أثر توزيع استمارات تدعو للتمرد على الرئيس وسحب شرعيته. نحو 50 شخصاً وزعوا أنفسهم على طول الطريق فى محيط مسجد السيدة زينب، شباب وفتيات تابعون لحزب الدستور، استغلوا الليلة الكبيرة لمولد السيدة زينب، واجتمعوا فى تمام الخامسة والنصف عصراً، بدأوا بتوزيع «استمارات تمرد» داخل الخيام المنصوبة حول المكان بمعاونة اللجنة الشعبية لحماية المولد والضريح المكونة من مجموعة من شباب الفرق الصوفية، بتفاؤل يقول «وائل عبدالعزيز»، مهندس بترول وعضو حزب الدستور: إن التفاعل مع الحملة «عظيم»، إلا أنه يشير إلى بعض من سماهم «مفسدى الحفل» ممن يدخلون معه فى جدل لا يفضى إلا لمضيعة وقته، مدللاً على الأمر بذلك الصيدلى الذى اتهمه بالتضليل، فيما أجابه أن ذلك حق دستورى أقره الرئيس والشعب بمواجهة السلطات سلمياً.. يمسك الشاب الثلاثينى بيديه الاستمارات واضعاً فوقها «ختامة» تعينه على أزمة التعامل مع عدد كبير من الأميين فى ساحة المكان.. «فى الأول كنا بنلاقى مشكلة مع الناس اللى مبتكتبش.. بس الختامة فرقت كتير». يحكى «وائل» عن تفاصيل الموقف الذى جمعه باثنين من عمال النظافة عقب صلاة العشاء، راح يقنعهما بما يفعله.. «لقيتهم مش عارفين مشاكل كتير من اللى بتحصل فى البلد وفهّمتهم إن فيه أزمة ميه، ووضحت لهم شوية من كذب الجماعة والرئيس.. وفى الآخر واحد بصم.. يكفينا ده النهارده». 3 فئات وسط ذلك الزخم لم يعنها أمر السياسة ومداولاتها، هم: الأطفال الحالمون ب«طرطور» أو طاقية ممهورة بعبارات التوحيد أو حتى «زمارة وشوية حمص»، وأولئك المنغمسون فى التطوح بأجسادهم منسحقين فى عالم آخر، وآخرهم القادمون من بلاد الله طمعاً فى القرب من شباك «الباتعة».. فيما كانت السياسة فى سبيلها للوصول إلى كافة الأطياف حتى أمام السيرك الذى ينادى صاحبه على تلك الراقصة التى يُضاء جسدها بسلك كهربى دون أن يمسسها سوء. فى ملكوت الله ساروا، قدم ثلاثتهم خصيصاً من جزيرة شندويل بسوهاج لإحياء «الليلة الكبيرة»، على الرصيف المقابل لمسجد السيدة زينب ينظرون تارة بابتهاج قبَل مئذنة المسجد التى تتلألأ، ومرّة بابتسامة صوب «لمة» حول «صينية فتة» كبيرة تتجدد كلما انتهت سابقتها من خلال فاعل خير، وثالثة بلهفة لأولئك المشدوهين داخل حلقة ذكر متمايلة أجسادهم تلقائياً كبندول الساعة كلما لمست قلوبهم تمتمات الشكر لله وسيرة آل بيت رسوله -صلى الله عليه وسلم- غير أن نداء أوقف سيرهم، حين هتف شاب ثلاثينى بصوت مبحوح: «يللا اللى عايز يسحب الثقة من الرئيس» واضعاً أمامه استمارات حملة تمرد، فراح الثلاثة صعايدة يهملون تأملاتهم بالمولد، بعدما ولجوا إلى مولد السياسة ومعتركاتها، عاقدين مؤتمراً لهم وسط الشارع بدأه «على أحمد» وقتما قال لأيمن محمود، عضو التيار الشعبى المسئول عن الاستمارات: «أنا عايز أدعم مرسى مش أمشيه.. هو لسه ممسكش العصاية مليح»، ليأتيه الرد من قرينيه (عبده خليفة وأحمد حسن): «يقعد إزاى يعنى إنت مش شايف حال البلد؟ مفيش أمن ولا شغلانة نضيفة.. يللا يا عم مضّينا».. سجال دام 10 دقائق قبل أن يعاودوا السير فى بحر المولد الجارف. «محمد محمد الصعيدى من سوهاج»، هكذا يجيب عن السؤال عن اسمه، على أبواب محل الرحمانى وجد مستقره وسط العائلات المنتشرة على أطراف ميدان السيدة، بعد أن أرهقه السير و«المناكفة» مع شباب يراهم غير عابئين بمصالح البلاد.. «يعنى هما فاكرين إن الثورة الأولانية نجحت عايزين يثوروا تانى؟ مايسيبوا البلد تمشى حبتين»، قبل أن يدخل فى حوار مع مجموعة من السيدات إحداهن صدّقت على حديثه، وأخرى تلعن من جعل الناس تنتقد شباباً فدوا البلد بأرواحهم. لا تنفى «رشا على»، عضو حزب الدستور التى تحمل عدداً غير قليل من استمارات التمرد، أن بعض «رواد السيدة» يمضون على أكثر من استمارة، فيما ترجع ذلك إلى خوفهم من أن يكون أحد الموزعين تابعاً لحملات أخرى مضللة ك«تجرد»، على حد وصفها، قبل أن تؤكد أن الاستمارات تمر بعملية فرز مجدولة بحيث لا يتم تكرار اسم أكثر من مرة تبعاً للرقم القومى. على مهل كان أحمد عبدالفتاح وصديقه أحمد محمود يطوفان حول المسجد، فيما شد انتباههما منظر «الطراطير» وأدوات الهرج التى اقتسم بائعوها الشارع مع شباب حملة تمرد، كدليل على سيطرة السياسة على المشهد، فيما كان دخول شاب سلفى وزوجته المنتقبة إلى أحد أعضاء حملة تمرد مرحَّباً به من قبَل بعض الشباب حين أخبرهم: «على فكرة أنا معجب باللى انتوا بتعملوه عشان سلمى»، ليأتيه الرد من شاب عشرينى بعصبية «بس مش هتبقى سلمية بعد يوم 30 يونيو»، غير أن بعض رفاقه نهره: «يعنى إحنا بنكسب الناس ولا بنكرّههم فينا». «تمرد» فى مولد السيدة زينب ظهرت على استحياء منذ يومين بحسب الحاج حمدى.. «مر علينا ولد صغير وورانا الورق وكان فاكرنا هنخاف ولا نمضيش، لكن اليوم ده خلص علينا أكتر من 500 ورقة.. إحنا خلاص مش قادرين نستحمل.. فى سنة واحدة الكهرباء قطعت والميه نشفت ومصر العظيمة بقيت بتلف تشحت من دول ولا ليها قيمة.. طب هنستنى إيه؟ المولد كله هيمضى تمرد». «ويمِّم ربة الشورى تجدها.. تنيلك كل مرتخصٍ وغال.. ولذ برحابها والزم ثراها.. وفز باللثم منه واكتحال.. وسل ما شئت من دينٍ ودنيا.. و ما أمّلت من جاه ومال.. إذا أولتك زينب أىّ لحظٍ.. فلا تخش الخطوب ولا تبال».. يدورون زاهدين فى حياتهم يرجون نظرتها وعصمتها، لا يخشون هؤلاء الذين يرمونهم بسهم النظرة ويصمونهم بجهل وشرك، فهم «الأحبة» جاءوا يطلبون الشفاعة فى دينهم ودنياهم فربما يصل لزينب صوتهم فترده على رب السموات ويسمعه ذلك الجالس فى «قصر الاتحادية». شكواهم طويلة، فلا أحد يستمع لهؤلاء الفقراء والغلابة سواها، فهذا «عم سيد» يسألها أن ترد إليه معاش التأمينات عن والده الذى قُطع لأن طبيباً رأى أن عجزه ليس كافياً فحرمه من 150 جنيهاً بتأشيرة من يده، وآخر متبتل بقوائم مقامها يسألها فى ضراعة أن ترد إليه ابنته المخطوفة فى أقصى الصعيد ولا يستطيع أن يدفع «فدوتها» ولا يعرف إن عادت إليه أيقتلها أم يذهب لولى الأمر ويسأله: «ماذا ستفعل لو خطفوا بناتك؟»، يبكى الحاج خالد عبدالعزيز، وهو القادم من أقصى الصعيد ليرفع حاجته إليها ويوقّع على استمارة «تمرد»، ففى سوهاج لم تصلهم تلك الاستمارات وامتنع هو أن يوقّع على «تجرد» بعد صلاة الجمعة الماضية فى قريته.. «إحنا بصمنا مرّة ومش هنعملها تانى.. بناتنا اللى بيتخطفوا ذنبهم فى رقبة مين؟ مش قصادى غيره أدعى عليه وأقول له: ربنا يدوّقك المرار اللى احنا فيه». اليوم طويل لا ينتهى، والنهار ما زال فى أوله، والجميع يلتف حول سورها ينتظر أن يصل للمقام من شدة الزحام، فكلما زاد قربهم من رحابها تسارعت يد الغوث إليهم، فهكذا عوّدتهم وهى لا تخلف وعودها كغيرها.. «فى يوم من الأيام أنا دعيت فى الرحاب إن ربنا يبعت لمصر حاكم صالح يراعيها لكن الظاهر الست ما استجابتش للدعوة، والنهارده دعوتى لمرسى مش لمصر.. ربنا....». الحاج خلف السوهاجى بائع السراويل فى موالد آل البيت كان له وجهة نظر مختلفة عن الحاج حمدى، قال عن الرئيس: «هو راجل طيب بس الإيد اللى وراه شديدة عليه»، متحدثاً عن الجماعة وقيادتها.