ليلة في حب وردة وبليغ حمدي.. «الأوبرا» تحتفي بروائع زمن الفن الجميل    بث مباشر.. شعائر صلاة الجمعة من مسجد الشهيد بالقليوبية    وزير المالية: نعمل على خفض زمن وتكلفة الإفراج الجمركي    غدا.. كامل الوزير يلتقي مع المستثمرين الصناعيين بمحافظة البحيرة لعرض مطالبهم    وزيرة التضامن الاجتماعي: نعمل على تمكين الشباب والسيدات وصغار المنتجين    «الأونروا»: يجب السماح بتدفق الإمدادات إلى غزة دون عوائق أو انقطاع    طهران: تقرير الاستخبارات النمساوية المشكك في سلمية برنامجنا النووي كاذب    توتر جديد بين واشنطن وموسكو.. ترامب يُهاجم بوتين ويهدد بعقوبات غير مسبوقة    كيف يساعد الغرب روسيا في تمويل حربها على أوكرانيا؟    "كل لحظة ستظل في قلبي".. رسالة وداع من يانكون إلى جماهير الأهلي    التضامن: وصول آخر أفواج حجاج الجمعيات الأهلية إلى الأراضي المقدسة    «الداخلية»: ضبط 310 قضايا مخدرات و170 قطعة سلاح ناري    ديانا حداد والدوزي يشعلان الصيف بديو "إهدى حبة" (فيديو)    حملة تبرع بالدم بمشاركة رجال الشرطة بالبحر الأحمر    فتح باب القبول بالدراسات العليا في جميع الجامعات الحكومية لضباط القوات المسلحة    أمين الأعلى للشئون الإسلامية: مواجهة التطرف تبدأ من الوعي والتعليم    انطلاق قافلة دعوية مشتركة إلى مساجد الشيخ زويد ورفح بشمال سيناء    نقابة المهندسين تبدأ فى تسفير أفواج الحجاج إلى الأراضي المقدسة    سعر الخضار والفاكهة اليوم الجمعة 30 مايو 2025 فى المنوفية.. الطماطم 12جنيه    جيش الاحتلال يعلن انضمام لواء كفير إلى الفرقة 36 للقتال في خان يونس    أفضل دعاء في العشر الأوائل من ذي الحجة للمغفرة مكتوب (ردده الآن كثيرًا)    باريس سان جيرمان بالقوة الضاربة فى مواجهة إنتر بنهائي دوري الأبطال    «الرعاية الصحية» تفوز بجائزة العمل المميز في التمريض مناصفةً مع السعودية    «الرعاية الصحية» تعتمد قرارات إستراتيجية لدعم الكفاءة المؤسسية والتحول الأخضر    نائب وزير الصحة يتابع تطوير المنشآت الطبية بالبحر الأحمر ب10 قرارات حاسمة    إمام عاشور يحسم الجدل: باقٍ مع الأهلي ولا أفكر في الرحيل    تكبير ودعاء وصدقة.. كيف ترفع أجرك في أيام ذي الحجة؟    ماسك يكشف عن خلاف مع إدارة ترامب    رئيس التنظيم والإدارة يستعرض التجربة المصرية في تطبيق معايير الحوكمة    ريا أبي راشد: أجريت مقابلة تلفزيونية مع مات ديمون بعد ولادة ابنتي بيومين فقط    ذكرى رحيل "سمراء النيل" مديحة يسري.. وجه السينما المبتسم الذي لا يُنسى    رئيسة القومي للمرأة تلتقي الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر الشريف    ملاكي دخلت في موتوسيكل.. كواليس مصرع شخص وإصابة 3 آخرين بحادث تصادم بالحوامدية    "الشربيني": بدء إرسال رسائل نصية SMS للمتقدمين ب"سكن لكل المصريين 5" بنتيجة ترتيب الأولويات    القومي للبحوث يرسل قافلة طبية إلى قرية دمهوج -مركز قويسنا- محافظة المنوفية    طريقك أخضر‌‍.. تفاصيل الحالة المرورية الجمعة 30 مايو بشوارع وميادين القاهرة الكبرى    أسعار البيض بالأسواق اليوم الجمعة 30 مايو    المضارون من الإيجار القديم: مد العقود لأكثر من 5 سنوات ظلم للملاك واستمرار لمعاناتهم بعد 70 عامًا    ماكرون يتحدث مجددا عن الاعتراف بدولة فلسطينية.. ماذا قال؟    مصرع وإصابة 4 أشخاص في حادث تصادم بطريق مصر السويس الصحراوي    انخفاض أسعار الذهب الفورية اليوم الجمعة    الإفتاء: الأضحية المعيبة لا تُجزئُ عن المضحي    رئيس وزراء اليابان يحذر من التوتر بشأن الرسوم الجمركية الأمريكية    «عانت بشدة لمدة سنة».. سبب وفاة الفنانة سارة الغامدي    3 ساعات حذِرة .. تحذير بشأن حالة الطقس اليوم : «شغلوا الكشافات»    «تعامل بتشدد».. تعليق ناري من طاهر أبو زيد على انسحاب الأهلي من القمة    موعد مباراة الاتحاد والقادسية في نهائي كأس خادم الحرمين والقنوات الناقلة    مدحت العدل يصدر بيانا شديد اللهجة بشأن شكوى جمعية المؤلفين.. ما علاقة حسين الجسمي؟    "فوز إنتر ميامي وتعادل الإسماعيلي".. نتائج مباريات أمس الخميس 29 مايو    «مالوش طلبات مالية».. إبراهيم عبد الجواد يكشف اقتراب الزمالك من ضم صفقة سوبر    البرلمان يوافق نهائيًا على تعديلات قوانين الانتخابات    مفاجأة، ريا أبي راشد تعلن خوض تجربة التمثيل لأول مرة (فيديو)    مجموعة الموت.. المغرب تصطدم ب«إسبانيا والبرازيل» في كأس العالم الشباب 2025    22 مصابًا في انقلاب "أوتوبيس" بالسادات في المنوفية    بعد أنباء رحيله.. كونتي مستمر مع نابولي    العرض الموسيقي «صوت وصورة» يعيد روح أم كلثوم على مسرح قصر النيل    هل يجوز الجمع بين نية صيام العشر من ذي الحجة وأيام قضاء رمضان؟    "الإفتاء توضح" بعد الجدل الدائر.. حكم صلاة الجمعة إذا وافقت يوم عيد؟    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الفيوم .. عطش يخنق الأرض .. وشقوق تتسع
مجارى المياه تحمل القمامة بدلاً من النيل.. والفلاحون يروون الأرض بالصرف على طريقة «أكل الميتة»
نشر في الوطن يوم 02 - 06 - 2013

الطريق تغلب عليه الوعورة، عن اليمين بيوت قديمة متهالكة، يسكنها الفلاحون، وتطل على مساحة شاسعة من الأرض الزراعية، التى يعملون فيها. لا يحبون الابتعاد عنها، لأن وجودهم قربها يشعرهم بالأمان، هى ملاذهم ورزقهم الذى لا يعرفون بديلاً غيره، فالزراعة مهنة الآباء والأجداد.
فى دوار جبلة، التابعة لمركز سنورس، راحت «الوطن» تفتش عن قرية جديدة للعطش؛ باختلاف حال البيوت تختلف مساحات امتلاك الأراضى، كلما ارتفعت قامة البيت اتسعت رقعة الأرض. وعيد إسماعيل سالم، أحد هؤلاء الذين ضاقت عليهم البيوت بما رحبت، يمتلك من الأرض فدانين فقط، قال ل«الوطن» إن «الأرض كالإنسان تحتاج إلى الماء كى تدب فيها الحياة». يختلف المحصول الذى يحرص المزارع على ريه، لكنه هذا العام يزرع القمح والبنجر والقطن، يحب التنويع فى المحاصيل، يخشى أن يخيب محصول فيعوضه الآخر، فالزرع رزقه الوحيد ودونه يهلك الأبناء. أكد أن المياه التى تصل إلى الأرض ضعيفة، وبدأ ضعف الضخ منذ نحو 3 أعوام، حتى انقطع عن زمام يبلغ قرابة 360 فداناً فى دوار جبلة.
أضاف المزارع، أنه سمع من التليفزيون وبرامج التوك شو ليلاً ما مفاده أن المياه ستقل مساحتها، يشخص ببصره ناحية أرضه، رغم كونها فدانين فقط، قائلاً: «تلك مساحة صغيرة جداً لأهل مدينة سنورس، الذين يمتلك كل مزارع فيهم عشرات الأفدنة»، اضطر سالم ومعه عدد غير قليل من المزارعين إلى اللجوء لمياه الصرف الصحى، يذهبون إلى مصرف ويحولون دفته إلى رى الأراضى خاصتهم، دون أن يشعر بالذنب، معللاً موقفه: «بنضرّ البنى آدم والمزروعات، عارفين بس هنعمل إيه؟ الصرف دا كرم من عند ربنا أصلاً، ولا يستطيع الفلاح أن يغير مهنته مهما تعرض للشقاء، إحنا اتولدنا فلاحين، ومش هنعرف نغير مهنتنا، وكبرنا على السفر للخليج».
يفكر سالم كثيراً فى المياه ورى الأرض، حتى أصبحت هاجساً يشغل باله ليل نهار، ماذا لو استيقظ فى الصباح ولم يجد ماءً يروى به أرضه؟ يعترض عليه البعض بأنه يروى من ماء الصرف الصحى ما يؤدى إلى إصابة الأهالى بالأمراض كالفشل الكلوى، لكنه يرد: «أكل العيش مر»، فالفلاح الفيومى يرى الحل فقط عند المسئولين، وعليهم أن يتحركوا لتنظيم الأمر بدءاً من مسئولى الفيوم، بعمل مواسير خاصة تنقل المياه، أو من الدولة بشكل عام، بالدفاع عن حقوق المياه، وجلب حقوق المواطنين البسطاء، كما يرى أن البعض يسرقون المياه دون عقوبات رادعة، لافتاً إلى ضعف الدولة فى مواجهة من يهدرونها، أو حتى فى مواجهة من يدفعون الرشاوى للمسئولين لغض الطرف عنهم، وتركهم يسرقون الماء هكذا على عينك يا تاجر. وفى تلك الظروف عرض عليه أحدهم تجريف الأرض مقابل أن تتحول إلى أرض مبانٍ، ففكر «سالم» فى ملايين الجنيهات التى سيحصدها جراء ذلك، لكنه وضع فى الكفة الأخرى التاريخ والذكريات مع الأرض ومهنة الأجداد، فرجحت كفة الاحتفاظ بالأرض ورفض أى طلب لتجريف الأرض، حتى لو خف منسوب المياه ولم تخضرّ كما كان يحدث من قبل.
لدى «سالم» أبناء ثمانية، ينتظرونه كل يوم أن يعود بقوت الغد، يضعف أحياناً ويجلس مع رفاقه ممن باعوا أرضهم وجرفوها، لكن زوجته تعينه على التحمل والصبر وتطالبه أن يرابط. يتدخل درويش محمد، الفلاح الذى لا يمتلك أرضاً لكنه يساعد «سالم» فى فدانَيْه، قائلاً: «المياه من المفترض أن تروى 1500 فدان فى دوار جبلة، لكنها لا تروى بشكل فعلى إلا 50 فداناً فقط، ما يدخلها ضمن نطاق قرى العطش بامتياز»، لافتاً إلى أن المياه التى تستخدم فى رى الأرض من يضع يده فيها بدلاً من أن يغسلها من الشوائب تتعلق فى الشوائب أكثر، وقد تمسك بدودة أو بالمخلفات الملقاة فيها.
قال درويش، إن «الجور على الماء فى الماضى لم يكن أحد يستطيع التفكير فيه، لكن الآن عمت الفوضى، وباتت مسلكاً لكل شىء فى البلد، فلماذا لا تنتقل بدورها إلى الأرض أيضاً؟ يحدد ارتفاع منسوب الماء المستخدم فى الرى بأنه كان يصل إلى 30 سم، بحسب مسئولى الرى، لكنه الآن لا يتجاوز السنتيمتر الواحد.
تتكرر الأزمة مع الحاج محمد عبدالظاهر، إلا أنها لا تتوقف عند حدود المياه وشحها البادى للعيان، فمع دخول فصل الصيف تزداد مشكلة الرى فى أرضه «فدان ونص»، بعد أن يجنى محصول القمح خلال شهر مايو، وهو المحصول الذى لا تحتاج زراعته إلى وفرة فى المياه، إلا أنه أشار بصوت مشروخ إلى حاله العثر بسبب عدم سداد أموال بيع القمح لمتطلبات منزله، قائلاً: «الواحد مش عارف لو الفلوس مكفتش هيعمل إيه»، الرجل الخمسينى لديه 4 من الأولاد، يعاونه كبيرهم فى الفلاحة كمعظم شباب قرية سنورس، يعلن «عبدالظاهر» عن قلة حيلته حيال ما يمكن أن تتكبده مصر ومن ورائها الأراضى الزراعية بعد بناء سد النهضة الإثيوبى، الذى يتوقع حسب الخبراء أن تقل بسببه حصة مصر بنحو 5 مليارات متر مكعب، مشيراً إلى أنه فى الأحوال العادية يحاول التحايل على نقص الرى من خلال موتور اشتراه قبل عام، غير أن أزمة السولار أجهضت مساعيه، لتَكْمل أزمة الرى المرتقبة، لدى ابن قرية سنورس.
أما الحاج محمد عبدالرحمن، فكان قبل نحو 5 أشهر يقف وسط أرضه حائراً، يبحث عن سبيل ليروى محصوله المشتاق لزخات الماء، فيما كانت «القنية» الموصلة إلى الأربعة فدادين التى يملكها عصية على الإجابة، بعد أن نضب النبع بفعل إنقاذ أراضٍ أخرى كان لها الحظ أن وقعت قبل أرضه من جهة المنبع، إلا أن أحد المهندسين الزراعيين أشار عليه بشراء حفار يجلب مياهاً جوفية، وهو ما مثل بالنسبة له «وضعاً مُسكناً» للأزمة، قال: «أهو نعمل إيه؟ أحسن من مفيش، وبيهون علينا فى أوقات كتيرة». الزمام الذى يحوى بين جنباته 300 فلاح يجمعهم عطش أراضيهم، لم يجدوا بداً من الشكوى لمسئولى الرى، فيما كانت نتيجة شكواهم مجرد وعود صارت سراباً، لا يُحزن «عبدالرحمن» سوى ضيق اليد الذى يعيشه بسبب انقطاع مصدر رزقه الوحيد أوقات عديدة فى العام: «مالناش فى حاجة غير الزراعة والأرض بتموت قدامنا، وساعات ناس بتروى بمية الصرف». وحكى الرجل بلهجة ريفية عن ذلك اليوم الذى شبت فيه مشاجرة بين اثنين من جيرانه بسبب أولوية الرى، مؤكداً أن حلوق الفلاحين جفت كما الأرض، وصارت بها غصة.
الفيوم من أكثر المحافظات عطشاً فى مصر، أمام أرضه يركب محمد مطاوع حماره، ويسير فى خيلاء، ومن حوله الأقارب، يطمئنون على 65 فداناً يملكونها، فهو أحد المزارعين الذين بسط الله لهم الرزق، يبلغ من العمر 63 سنة، منذ أن كان طفلاً لا يتذكر سوى الحقول مكاناً لحياته، حتى إنه لا يعرف شكل المدينة، يسمع «طراطيش» كلام عن أن أزمة مياه النيل تهدد مصر، ومستقبلها، قال: «مفيش ميه أصلاً عندنا، إزاى بقى هيبقى مفيش مية؟»، أحوال مطاوع المادية متيسرة فاشترى ماكينات تعينه على استخراج المياه الجوفية لرى الأرض، إلا أن أزمة أخرى واجهته وهى نقص السولار فى السوق، وأمام تلك المشكلة وقف حائراً ينظر إلى عشرات الأفدنة التى يمتلكها ويخشى أن يصيبها التصحر.
يزرع مطاوع 3 محاصيل «البنجر والبصل والقمح»، وبسبب العطش الذى تعيشه الأراضى وانخفاض منسوب المياه، يصل إجمالى خسارته فى العام إلى قرابة 8 أرادب قمح على الأقل، فيما يؤكد أن هناك نحو 360 فداناً فى الزمام الذى يحيط بأراضيه يضطر أصحابها إلى استخدام مياه المجارى لرى أراضيهم، على الرغم من المشاكل الصحية التى تسببها تلك الطريقة لكن ما بأيديهم حيلة، حسب قوله.
أضاف: «مش ذنبى إنى فلاح وعندى أرض»، وجهه الشاحب خط فيه الزمن علاماته، لكنه لم يعد يحتمل أكثر، يتأفف من طول الانتظار لجرعة مياه تعيد إليه وهجه وللأرض خضرتها الطبيعية.
أشار الحاج عادل إسماعيل، الذى دخل عامه ال51، إلى مجرى المياه الممتلئ بالحشائش، وفقد الفلاحون الأمل فى وصول المياه إليهم من خلاله، فحتى حشائشه أوشكت أن تجف، قال: «كنا على طول ننضف هذا المجرى، لكن خلاص شوية شوية هيقلب مزبلة، كل من هب ودب يرمى فيه كيس وورق لحد ما وصل الحال للشكل ده، الميه خلاص مبتوصلش هنا غير بالضالين».
إسماعيل اختصر على نفسه الطريق، فقرر زراعة محصولى «القمح والبرسيم»، لقلة احتياجهما إلى المياه، أضاف بلسان ينضح سخرية: «بابعد عن الحاجات اللى بتطوّل فى الزرع عشان متحسرش من النتيجة، ولسه كمان أزمة النهضة بتاعة إثيوبيا ستكون خراب على أهل البيت»، جميع أبناء إسماعيل غير متعلمين، على أمل أن الأرض والفلاحة، مهنة آبائهم وأجدادهم، لن تضن عليهم، إلا أن الحال انقلب بهم إلى «عواطلية»، لا يُخفى الرجل محاولاته المضنية لزراعة الأرض، ولو بطرق يعلم جيداً أنها غير صحية، كاستخدام مياه الصرف، تابع: «كلنا جالنا بلهارسيا، والواحد مش عارف جسمه شايل مرض إيه تانى من الهباب اللى بنروى بيه».
لا يقتصر العطش الفيومى على مركز سنورس وقراه فحسب، ولكن يمتد ليشمل مراكز عديدة، «الوطن» واصلت جولتها فى المحافظة المشهورة بسواقيها وبحيراتها، فى طريق لا تتمكن السيارة من المضى فيه يترجل أهل القرية، حيث لا يوجد إلا الأرض الزراعية وفصل دراسى صغير، فى قرية «خزان» التابعة لمحلة صاوى بمركز طامية.
جلس عبدالتواب فتحى، فى أرضه، يشرب شاى العصارى، وهو يمتلك من الفدادين خمسة، يزرعهم وأبناء عمومته، لا يجدون المياه التى تكفى لرى أراضيهم، فلجأوا إلى مياه الصرف الصحى، المياه المفترض بها أن تكون نظيفة، إلا أنها أصبحت مقلب قمامة المنازل المتراصة حول الأراضى.
يزرع فتحى 4 محاصيل، هى البنجر والسكر والقمح والبرسيم، فى الماضى كان يداوم على زرع الأرز، لكن انخفاض منسوب المياه دفعه إلى تغيير المحاصيل، حار بين الخسارة الفادحة وتغيير ما اعتاد عليه، فاختار الثانية، لكنه لا يتخيل أبداً أن تقل المياه أكثر من ذلك، يسمع عن إثيوبيا ولا يعرف كيف ستؤثر على الفيوم، ولا يستوعب الأمر، فيطالب الرئيس محمد مرسى الذى انتخبه بالتدخل. يفكر الرجل فى أن «يبوّر» أرضه، ويذهب إلى العمل فى مصر، حتى يتخلص من عذاب العطش ومن شعوره بالمهانة، بعد أن قدم على عقد للعمل فى مجلس المدينة، فردوا عليه بأنه يمكنه العمل بعقد مؤقت قيمته مائة جنيه شهرياً.
يبلغ حمدى السيد من العمر 51 سنة، لكنه وبعد عمر قضاه فى الأرض، أصبح يردد كل يوم جملة واحدة كلما خرج إليها فى الصباح: «يا ريتنى ما كنت فلاح»، أشار إلى الأرض الواقعة فى مهب التصحر، فى حسرة، يلتفت إلى الأبناء ال 4، الذين ينتظرون مستقبلاً مشرقاً بلا فائدة، وإلى سعر «شيكارة الكيماوى» الذى لا يستقر على حال، ويقول: «دا ابنى عبده، عنده 6 سنين بدأ العمل فى الأرض، على الرغم من أننى نفسى أصبحت كارهاً للفلاحة، لكن معرفش حاجة غيرها ممكن أشتغلها».
مع قرب غروب الشمس، جلس عويس سيد عبدالغنى على حافة أرضه الزراعية يتذكر الأيام الخوالى، عندما كان مندوباً عن قريته المكفهرة فى الأراضى المقدسة بالسعودية، لم يكن يشغل باله وقتها غير نصيب أسرته من الشهرية، جراء عمله جزاراً هناك، لكن مع سوء الأوضاع قرر أن يعود إلى قريته، فأرضه أولى به، لكن ما كان فى انتظاره لم يكن فى الحسبان، فرغم كونه فى الثلاثينات من العمر بدت عليه علامات الكهولة؛ الاصفرار صبغ لون ذراعيه وألقى بظلاله على وجهه، من العمل فى فدان «يتيم» تحصل عليه ورثاً عن والده الذى جناه من عملية الإصلاح الزراعى فى عهد جمال عبدالناصر، الزعيم الراحل. راح الابن يشق الأرض، وفقاً لوصية الأب، لكن بعد مرور السنوات صار الصرف الصحى هو سبيله للرى بديلاً عن الماء الجارى: «المجارى دى الناس عاملاها على حسابها، وهى الحل اللى فاضل قدامنا»، يتجهم وجه الرجل وهو يصف شكل الانحدار الذى وصلت إليه الأرض، وانحدرت معها أحوال الفلاحين قائلاً: «الفيوم تعتبر من أكثر الأماكن انخفاضاً فى الجمهورية، ومع ذلك استخدام مياه الصرف بات أمراً عادياً لدى أهل الزمام، والمشكلة أن المجارى مخاطرها كبيرة على الإنسان والأرض، وتؤدى إلى بوارها وتجعلها غير صالحة للزراعة».
مع دخول فصل الصيف، قرر الرجل الثلاثينى ألا يظل صامتاً على حال أرضه التى تتدهور يوماً بعد الآخر، لذا كان وقوفه أمام وكيل الوزارة 3 مرات سبيله الوحيد لحل المعضلة، غير أن مساعيه باءت بالفشل: «محدش بيسأل فى مشاكلنا، والأمور ماشية بالواسطة».
قال «عويس» إن أزمة المياه التى يتحدثون عنها فى التليفزيون ستقصم ظهر الفقراء، معبراً عن ضيقه بضحكة غير صافية: «يلّا عشان تبقى كملت». لا تقتصر ويلات الرجل الذى يزرع فدانه الوحيد بالبنجر والقمح على ضخ المياه الشحيح بفعل ورد النيل حيناً، وانقضاء الحصص المقررة أحياناً أخرى، فأسعار الكيماوى التى ارتفعت من 80 جنيهاً إلى 150 جنيه للشيكارة، حسب قوله، تزيد من مسئولياته، فيما أضحت الأرض مصدراً للحسرة بعد أن كانت تفيض بالخير، وتعود على قلبه بالبهجة.
لم يتحمل محمود عبدالغنى الأرض ومشاكل الرى والمياه، قال: «الأرض جابت لى الهم بدرى»، يصعد النخل مع أقاربه لحصد الجريد أو تجميع البلح، يبلغ من العمر 23 سنة، متزوج منذ عامين، ولديه طفلة، إلا أن المسئولية دفعته إلى ترك مسقط رأسه إلى العاصمة، حيث يعمل فى مصنع بمدينة 6 أكتوبر، ويسافر إليها يومياً، قال: «البيت فيه كتير غيرى يهتموا بالأرض، خصوصاً أنها لم تعد مجدية كما كانت فى الماضى»، بمجرد أن يعود من المدينة الصناعية إلى قريته يجلس مع أسرته يبحث عن حل لمشاكل المياه، وكيف تشرب الأرض، وكل ليلة يؤرق منامه العطش والجدب، والخوف من المستقبل، قال إن الأرض لم تعد مصدر رزقه الوحيد، وتعانى الجفاف، لكنه لا يستطيع بيعها، فالأرض عرض، ولا تباع فى الصعيد، ويجتهد إخوته فى فلاحتها، ويقومون على شئونها. يشير إلى أن المياه التى تسقى الأرض كانوا فى الماضى يتوضئون منها، أما الآن فيحاولون إبعاد أيديهم عنها ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، أوضح أن أرضهم تقع فى زمام يجمع أكثر من مائة فدان، لكن الماء لا يصل إلى أكثر من 5 فدادين.
الفيوم قبل «سد النهضة» عطشى.. وحلوق فلاحيها جافة.. ووجوههم مكفهرّة مصفرّة.. وأرضهم مهددة بالبوار.. فيما يرى الأهالى المستقبل أكثر إظلاماً وجفافاً وثبوراً.
أخبار متعلقة:
"الوطن" ترصد خريطة"شقوق الظمأ"في 5 محافظات
الأرض "بور" .. والحكومة "معندهاش دم"
أراضى استصلحها «ناصر» وقتلتها «النهضة»
"البوار" يهدد 30 قرية .. والكهرباء السبب
الشرقية..المزارعون: "بيوتنا هتتخرب"


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.