هذه أول مرة أستعمل لفظة الأخونة فى مقال، ويرجع ذلك إلى أننى أعتقد أن من حق التيار السياسى الفائز فى انتخابات شريفة وحرة ونزيهة، وفق أصول الحكم الديمقراطى السليم، أن يتخذ من الإجراءات ما يلزم لتنفيذ برنامجه الانتخابى بما يمكّن الشعب من الحكم الصحيح على حكم التيار الحاكم وسياساته كى يستنير بهذا الحكم فى نشاطه الديمقراطى المشروع وقراراته بشأن من فوّضهم فى الحكم خدمة للصالح العام الذى يتضمن حتماً، فى حالة مصر فى الوقت الراهن، العمل على نيل أغراض الثورة الشعبية العظيمة فى الحرية والعدل والكرامة الإنسانية. فالشعب يبقى له الحق فى الفعل الديمقراطى فيما بين جولات الانتخابات، بما فى ذلك جميع أشكال التعبير من خلال التجمع السلمى، بالإضافة إلى الحق الأصيل فى الحكم الحاسم على التيار الذى كان حاكماً فى جولة الانتخابات التالية عندما يحين موعدها. وتتضمن تلك الإجراءات المسموح بها ديمقراطياً للتيار الفائز فى انتخابات ما، تعيين ممثلين للتيار فى مواقع التأثير السياسى بهدف وضع برنامج التيار محل التنفيذ وفاء لوعوده الانتخابية فى خدمة الشعب والصالح العام، مثل المناصب الوزارية. أما المال العام، مال الشعب، فيبقى استغلاله دائماً حكراً على هدف خدمة الصالح العام، وأى انحراف عن قويم السلوك هذا يجب أن يكون مجرَّما سياسياً وقانونياً، فى دولة الحق والقانون. لاحظ أن القصد ديمقراطياً من الحكم دائماً هو تحقيق الصالح العام وليس استجلاب ميزات سياسية نفعية لصالح التيار الحاكم تعدّل من ميزان القوى لصالح استمرار إمساك التيار بالسلطة فى المستقبل، ففى هذا إهدار جسيم لأصول الحكم الديمقراطى السليم ومن أهمها الحفاظ على ضمانات التداول السلمى للسلطة. ومن أخبث هذه السبل التى تقارب الجناية السياسية فى العرف الديمقراطى، توظيف السلطة والمال العام للترويج السياسى المباشر للتيار السياسى الحاكم وتمكينه، ما اصطلح على تسميته فى مصر بالأخونة. لكن فى ظنى أن تيار اليمين المتأسلم الحاكم قد فقد مقومات استعمال هذه الرخصة الديمقراطية نظراً للمغالاة فى تمكين أنصاره من السيطرة على مفاصل الدولة والمجتمع والانزلاق إلى توظيف المال العام للترويج للتيار بما يمثل انحرافاً عن شروط الرخصة. بداية، لم يقدم لنا التيار برنامجاً متماسكاً يسعى لتنفيذه وفاء بوعوده الانتخابية بالعمل على نيل غايات الثورة الشعبية العظيمة، ولم تتميز الانتخابات التى فاز بها بشروط الشرف والنزاهة. وقد تجاوز استخدام الرخصة شروط الترخيص بمراحل، فأضحى الهدف الأساس منها هو تمكين سلطة اليمين المتأسلم الحاكمة من إحكام قبضتها على الدولة والمجتمع وعلى العملية السياسية برمتها، وباستغلال المال العام لغرض التمكين السياسى لفصيل بعينه، بهدف إقصاء القوى السياسية المناهضة لحكم التيار وإهدار فرصها فى التنافس السياسى. والمثل الوضح على هذا هو النشاط الفاعل لوزير التموين الإخوانى فى إتاحة بعض السلع الشحيحة بأسعار معقولة للناس ولكن فقط تحت راية حزب الحرية والعدالة التابع لجماعة الإخوان، ما يضع نشاطه فى خانة الترويج الانتخابى للحزب القائد للتيار الحاكم، وليس خدمة عامة الشعب والصالح العام وهما ما أقسم بالله العظيم على الحفاظ عليهما. غير أن هناك بالإضافة لذلك مجالين أرى أن الأخونة فيهما مكروهة بلا تحفظ وهما التعليم والثقافة. والسسب الأساس لهذه المكروهية هو أن هذين مجالين يؤثران على العقول والأفئدة ومن ثم يمتد تأثير التمكين الإقصائى فيهما لسنوات طوال بعد انتهاء ولاية أى تيار سياسى فائز فى جولة انتخابية، ومن ثم فإن صيانة الصالح العام توجب فرض قيود قوية على إخضاعهما لهوى أى فصيل سياسى ولو فاز فى جولة انتخابات معينة. أما السبب الثانى، وهو الأهم من وجهة نظر احتمالات النهضة الإنسانية فى مصر والمنطقة العربية عامة، فهو أن أنظمة التعليم والثقافة القائمة تفتقر إلى المقوم الأهم لامتلاك ملكات الإبداع والابتكار اللازمين لدخول عصر المعرفة، مفتاح التقدم فى الطور الحالى من تقدم البشرية ومعياره الحاسم. والمتطلب الأساس لامتلاك هذه الملكات هو بناء قدرات التفكير التحليلى والنقدى الذى يتناقض كلية مع ذهنيات وأساليب التلقى والاتباع التى تنتج لا محالة عن هيمنة تيار فكرى أو سياسى واحد، يقوم منطقه على التسليم والولاء، على التعليم أو الثقافة. فسبيل ازدهار التعليم والثقافة واحد: الحرية والتنوع المثريان للعقل والوجدان. حتى الزعيم الشيوعى الصينى ماو تسى تونج، على انغلاق عقيدته وتزمّتها، حينما اختار شعاراً لثورته الثقافية أعلن «دع مائة زهرة تتفتح ومائة مدرسة فكرية تتبارى». وهناك أكثر من سبب عملى للزعم بأن التمكين الإقصائى لن ينجح فى مجتمع ضخم ومركب كمصر. فكما لا يخفى على أى متابع، فالمعارضة لنظام الحكم المتأسلم حتى بين صغار الطلبة وفى جميع مراحل التعليم ما زالت قائمة، بل تشتد وتقوى لأسباب موضوعية مرجعها فشل الحكم البادى لكل ذى عقل، على الرغم من وجود وزراء من جماعة الإخوان. والشواهد تتكاثر ابتداء من إبداعات صغار الطالبات الشعرية، وبعضها أُلقى فى حضرة الوزير الإخوانى، فى نقد الحكم والحكام، إلى إسقاط طلبة المراحل الأعلى لمرشحى جماعة الإخوان فى انتخابات اتحادات الطلاب. والمعارضة بين المثقفين أشد وأقوى، خاصة بعد تعيين وزير ينتمى لتيار إسلامى يفتقر إلى أى مقومات ثقافية مقنعة، وواضح أن أسلوبه إقصائى استئصالى قبل أن يقدم شيئاً لصالح الثقافة فى مصر يستحق به أن يكون وزيراً للثقافة فى أكبر بلد عربى اشتهر بثراء إنتاجه الثقافى وإبداعاته الفنية. والدليل على ذلك هو إقصاؤه الفورى لواحد من أبرز قيادات قطاعات الوزارة الذى قاد نشاطاً ضخماً بعد الثورة انعكس على استعادة حيوية الجهة التى كان مسئولاً عنها بما يتماشى مع غايات الثورة الشعبية العظيمة، وجرى ذلك الإقصاء فور تعيين الوزير من دون طرح أو مناقشة برنامج للوزير أو للقيادة المقالة، ما يشى بأن النية كانت مبيتة لأسباب لا علاقة لها بنشاط الجهة الثقافى أو أدنى اهتمام بدورها الحيوى. وقد ظهرت بوادر تبعات هذا الإقصاء فعلاً، حيث بدأت الهيئة المعنية ممارسة رقابة على محتوى الكتب التى كانت تحت الطبع وقت تعيين الوزير الجديد. وليس غريباً أن انفجرت براكين غضب جموع المثقفين والفنانين على تعيين هذا الوزير. والسبب العملى الثانى لتفادى الأخونة الإقصائية فى مجالى التعليم والثقافة هو أنه نظراً للأهمية القصوى لهذين المجالين فى تحديد مستقبل مصر وإمكان نهضة شعبها، فإن التمكين الإقصائى يمكن أن يستدعى ردة فعل مماثلة ومضادة فى الاتجاه العكسى فى المستقبل، مما يخل باستمرارية واستقرار وظيفتى التعليم والثقافة فى المجتمع، كما خبر تيار الإسلام السياسى نفسه فى عملية استئصال شأفته من المجالين فى عصور مضت. ومن ثم فإن الحرص على مستقبل مصر ومستقبل شعبها يتطلب من أى تيار سياسى، مؤقت، بالتعريف فى ظل الحكم الديمقراطى السليم، أن ينزه نفسه عن التمكين الإقصائى فى هذين المجالين. إن التمكين الإقصائى، أو الأخونة كما اشتهر، قد فقد فى ظل سلطة اليمين المتأسلم الحاكمة مشروعيته الديمقراطية بسبب تجاوز الرخصة الديمقراطية المتهرئة أصلاً نظراً لغياب برنامج عمل واضح ومتماسك لحكمه ولشوائب العملية الانتخابية التى أتت به، وقارب حدود الجناية السياسية بتوظيف المال العام لأغراض سياسية نفعية. والأخونة فى التعليم والثقافة تتهدد مستقبل الوطن بالكامل، ومن ثم فلا بد من وقفها بالكامل.