يمسك الأب بذراع طفلة صغيرة تعبر من أمامه، بينما تغطى الدموع وجهه، يقبّلها ويمسح على شعرها: «حسبنى عليهم.. يمكن ربنا يقبل منك.. قولى حسبى الله ونعم الوكيل فى اللى قتل محمد، عشان ربنا يرجّع حقه».. تنطلق الطفلة وهى تردد «حسبى الله ونعم الوكيل فى اللى عملوا كده فى عمو محمد». المشهد السابق للمهندس أحمد ثابت، والد الشهيد النقيب محمد ثابت، الذى لقى مصرعه برصاص تجار المخدرات فى منطقة نخل بسيناء. الأب يلخص المأساة: «ده كان هيخطب الأسبوع ده، أصل هو ابنى الوحيد، وكنا عايزين نفرح بيه أنا وامه بس رجع فى صندوق.. مالناش غيره فى الدنيا دى كلها.. دم ابنى فى رقبة رئيس الجمهورية ووزير الداخلية ووزير الدفاع.. ابنى راح ضحية الإهمال.. لم يكن معه واق.. مثل الرئيس.. ولا أسلحة حديثه مثل المتهمين.. طبنجة 9 ملم.. ابنى اتنصب له كمين ومجموعة من تجار المخدرات قتلوه.. أنا عايز حق ابنى». دون أن يدلك أحد عليه، ستصل، ستتعرف عليه بسهولة، وكأن قدميك تعرفان الطريق إليه.. منزل بسيط من طابقين، تلفّه هالة من الأسى والحزن تشعر بها، تلمس أنفاس ساكنيه، تلعق مرارة الدموع، تقاوم انقباض القلب وتسارع دقاته بلا جدوى، مهابة الموت تسكنه كظلال بلا آخر، نساء بملابس حداد ينتشرن فى المنزل، صوت الشيخ عبدالباسط عبدالصمد ينساب صداه فى رهبة وإجلال، بسهولة تراه، والد الشهيد الذى يتلقى واجب العزاء فى نجله الوحيد جالساً على كرسى فى الصالة وأعلى الحائط وراءه صورة الشهيد. الرجل الذى لا يكفّ عن البكاء يشير إلى صورة نجله قائلاً: «محمد الله يرحمه ابنى الوحيد، تخرّج فى كلية الشرطة سنة 2010 هوّ اللى أصر على دخول كلية الشرطة لخدمة وطنه، رغم حصوله على مجموع 90% فى الثانوية العامة ولكن أمام إصراره لم أقف عقبة فى طريقه. وعقب تخرجه عمل فى مديرية أمن الإسماعيلية لمدة سنة فى مباحث مركز شرطة أبوصوير، وكان ضابط شرطة شاطر، وأخذ شهادة تقدير فى الرماية والكاراتيه، ثم انتقل إلى مباحث نخل بشمال سيناء. كل يوم، منذ أن انتقل للعمل فى شمال سيناء، وهو يخبرنا أثناء الاتصال به هاتفياً للاطمئنان عليه، أنه كان فى مأمورية وربنا نجّاه من الموت فيها، ويحكى عن وحشة صحارى سيناء والانفلات الأمنى فيها وعن الأسلحة الثقيلة التى يستخدمها المتهمون أثناء القبض عليهم، ويشكو من عدم وجود واق أو أسلحة حديثة».[FirstImage] يتذكر الأب واقعة غريبة كان الشهيد قد حكاها له هو ووالدته. كان فى مأمورية للقبض على تجار مخدرات، وأثناء تحركهم تبين لهم أن المتهمين معهم أسلحة ثقيلة فطلبوا من الجيش إمدادهم بمدرعة لمساعدتهم فى المأمورية، إلا أن ضباط الجيش رفضوا بحجة عدم كفاية الوقود فى خزان المدرعة، وقالوا: «لو خلص الجاز مش هنعرف نموّنها»، يبكى الأب: «حبسى الله ونعم الوكيل فى مرسى اللى خلى مفيش جاز فى المدرعات». ويستمر فى بكائه: «الحمد لل،ه محمد دلوقتى فى مكان مفيش فيه انفلات أمنى ولا فيه مرسى يحكم البلاد ولا صحراء سيناء وطرقها الملتوية ولا خارجين على القانون، محمد عند رب العالمين». ويأخذه الحديث عن استشهاد نجله إلى يوم جنازته الذى يصفه: «يوم مش هانساه، أنا فاكره كويس أوى زى ما يكون كان بيكلمنى وهو فى الصندوق». محمد ودع الجميع يوم الثلاثاء منتصف الشهر الجارى بعد أن وضعوا جثته فى سيارة إسعاف عصراً، وكان معه عدد ليس بقليل من أهالى القرية أمام مستشفى العريش وقطعوا به مسافة حوالى 300 كيلومتر، قطع محمد تلك المسافة مرات عديدة أثناء الإجازة حتى يوم مجيئه فى الصندوق فى الواحدة فجراً ودفنه دون عمل جنازة عسكرية.. «إيه يعنى اللى هيفيد؟ هيرجع ابنى؟ لا طبعاً.. الوزير ماكلفش خاطره وكلمنى وعزّانى ولا حتى الرئاسة، ولا أنا مستنى أى حاجة من حد.. ابنى مات وخلاص، ربنا يجعله من الشهداء. بس اللى أنا مستغرب منه إن حياة الشباب مالهاش أى لازمة عند المسئولين.. أنا ابنى الوحيد راح منى طيب هاعمل إيه؟». تعذب الأب حالة الأم ولوعتها ودموعها وحسرتها.. يهز رأسه أسفاً وحسرة هو الآخر، مشيراً إليها: «كانت بتجهز له الأكل اللى بيحبه؛ المحشى والفراخ، الكلام ده بعد مكالمة استمرت 15 دقيقة بينهما، تحدثا خلالها عن الشقة اللى احنا اشتريناها له فى فاقوس والعروسة اللى كان هينزل عشان يخطبها، ومفيش بعد المكالمة دى بحوالى نصف ساعة اتصل بىّ واحد صاحبه وقال لى: يا عمى البقاء لله محمد استشهد، كان جاى من تأمين فوج سياحى وتجار مخدرات قتلوه. أنا عرفت الخبر حاولت أخبيه عن أمه ولكن أنا ماقدرتش بصراحة، هىّ كانت فى المطبخ، رحت لها وقلت: محمد ابنك محبوب فى الشغل بتاعه أوى كل الناس بتحبه.. محمد ابنك ربنا بيحبه.. وانت مؤمنة.. محمد ابنك مات.. محمد شهيد.. الأمانة اللى ربنا بعتهالنا أخدها تانى، محمد ابنك عند ربنا.. كاد رأسها يطير من الصدمة.. وانطلقت صرخاتها ولم تتوقف». فى نهاية كلامه وجّه الأب رسالة للرئيس الدكتور محمد مرسى، رئيس الجمهورية، ووزير الداخلية اللواء محمد إبراهيم، ووزير الدفاع قائلاً «أنا مش مستنى منكم أى مكافأة أو جنازة عسكرية أو تكريم أنا عايز حقى، ابنى نور عينى الشهيد محمد أحمد ثابتى».