لو لم تسقط «الثورة البلشفية» فى وحل الاستبداد والفساد لكانت الأهم فى تاريخ الحركات الإنسانية الخالصة، لا يسبقها إلا بعض الثورات الناعمة التى أوجدتها الرسالات السماوية والمذاهب الدينية. فهذه الثورة، التى تمثل المرحلة الثانية من الثورة الروسية شيدت على أكتاف الفكر الماركسى اللينينى إمبراطورية شيوعية مرهوبة الجانب، مدت أذرعها إلى الجهات الأربع، فلم تخل دولة فى العالم بأسره من تأثير لها، تدرج من مجرد وجود أفراد يعتنقون الشيوعية إلى قيام أحزاب تتخذ منها أيديولوجية متكاملة، وصولا إلى نظم حكم بنت عليها سياساتها، ولذا فهى، من هذه الزاوية، ثورة جائحة Cataclysmic Revolution شأن الثورات الأمريكية والفرنسية والصينية والإيرانية. ورغم أن النظرية الماركسية توقعت أن تندلع الثورة الشيوعية فى بلد صناعى متقدم، فإن الروس خالفوا هذه التوقعات وأقاموها فى مجتمع زراعى. وهذه الثورة كانت محاولة لتطبيق بعض أفكار كارل ماركس، خاصة تلك التى حواها كتابه ذائع الصيت «رأس المال» وكذلك ما سطره زميله فريدريك أنجلز، لا سيما تلك التى تنادى بحكم الطبقة العاملة «البروليتاريا» وتحالفها مع الفلاحين، ومنع تحكم رأس المال الخاص فى الحياة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية، وأطلق عليها صاحباها «الاشتراكية العلمية». وبناء على تلك الأفكار تصبح الدولة هى المالكة لكل وسائل الإنتاج من دون استثناء. وقد آمنت الماركسية بأن حدة الصراع الطبقى تعتمد على قوة مقاومة «البرجوازية الرجعية» لغالبية الشعب، وحددت شروط الانتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية فى بلد ما، وربطت هذا بشكل الثورة، سلمية أم مسلحة. وجاءت الثورة البلشفية تتويجا لسلسلة من الاحتجاجات والانتفاضات ضد حكم القيصر نيقولا الثانى المستبد، المدعوم من النبلاء والعسكر ورجال الدين الأرثوذكس المتعالين على الشعب، وكان حاكما متغطرسا، أثقل كاهل الشعب بضرائب باهظة وأسعار مرتفعة، وحول ثلث السكان إلى عبيد فى أراضى النبلاء، التى وزعتها عليهم السلطة لتستميلهم. ورغم التحديث الذى شهدته روسيا وقتها فإن الأغلبية الكاسحة من الشعب لم تشعر به، ولم تذق طعمه. ومع هذا ظلت روسيا بلدا زراعيا رغم التصنيع بمساعدة رؤوس الأموال الأجنبية. وكان نيقولا غاية فى التعسف مع الناس والبطش بهم، بينما لم تكن له هيبة فى الخارج، لا سيما بعد هزيمة روسيا أمام اليابان، والتى كانت سببا مباشرا فى اندلاع انتفاضة 1905، بقيادة تجمع أحزاب المعارضة من ديمقراطيين واشتراكيين ماركسيين. وقد تأزمت الأوضاع الداخلية فى البلاد إثر مشاركة موسكو فى الحرب العالمية الأولى، والتى عبأت لها 13 مليون مجند، فر كثيرون منهم بعيدا عن ميدان القتال، فى حين قُتل نحو ثلاثة ملايين شخص، وجُرح خمسة ملايين آخرون. وبدأت الثورة فى 23 فبراير 1917 (حسب التقويم الروسى) بمظاهرة لنساء بتروجراد، تبعها إضراب نظمه نحو مائتى ألف من عمال المدينة، لم يلبث أن صار إضرابا عاما. واحتل المتظاهرون الشوارع بمشاركة الجنود، واستولوا على العاصمة، وتم تشكيل حكومة مؤقتة ضمت الكاديت والمناشفة والاشتراكيين الثوريين، وأجبر القيصر على التنازل عن الحكم، لكن البلاشفة بقيادة لينين تمكنوا من السيطرة على قصر الشتاء، مقر الحكومة المؤقتة فى السابع من نوفمبر، ليحصدوا ثمرة انتفاضتهم المسلحة التى اندلعت فى 24 أكتوبر، مستغلين تراخى حكومة المناشفة، وعدم تمثيلها للقاعدة العريضة من الشعب. وترجم البلاشفة إرادة الأمة فى رفض الحرب، وعقدوا صلحا مع ألمانيا، التى قدمت مساعدات غزيرة للثورة، واحتضنت بعض قادتها، كما قام جهاز المخابرات الألمانى بتوصيل نداءات وبيانات الثورة للشعب الروسى على النحو الذى أدى لانسحاب فرق بأكملها من المعركة، تمردا على القيصر. وعقب الثورة قامت الدولة بتأميم الصناعات الكبرى، والبنوك، ووسائل النقل والمواصلات، وألغت الملكية الخاصة للأراضى. واستلهمت الدولة خطة لينين فى بناء الاشتراكية، لتبنى قاعدة صناعية، وتقوم بتطوير الزراعة. (ونكمل غدا إن شاء الله تعالى)