يَمنة ويَسرة تلفّت الطبيبُ حائراً فى الباحة المكتظة بالمسعفين والمصابين جرّاء أحداث محمد محمود الأولى نوفمبر 2011؛ لم تدم حيرته بعد أن قطعها من خلفه صوت خافت: «ممكن تصلى فى الكنيسة يا دكتور من غير ما تحتار».. بعد العرض السخى ابتسم الوجهان، وجه المُخاطَب ووجه المُخاطِب، بينما تزاحمت سحب الدخان الخانق المبكى فى الأعلى لتعانق الصليب أعلى برج كنيسة قصر الدوبارة. فى داخل الكنيسة، التى شُيدت عمارتها سنة 1950، لم تنقطع الصلوات والترانيم متزامنة مع أحداث الدم فى ميدان التحرير: بارك بلادى.. بارك بلادى يا سامع الصلاة فى قلوب كل البشر «قبل الثورة وبعدها لم تفرض كنيسة قصر الدوبارة على شعبها موقفاً سياسياً بعينه؛ فإيماننا كبير بحرية المواطن فى اختياراته»، هكذا يقول ماجد عادل، المدير الإدارى ومسئول العلاقات العامة بالكنيسة. غير أن الكنيسة التى كانت محدودة كدار عبادة للمسيحيين لعبت أدواراً أخرى مع قيام الثورة. فى بداية 1950، اكتمل بناء عمارة الكنيسة الإنجيلية فى منطقة «قصر الدوبارة»، التى حملت اسمها، لتشرف مباشرة على ما يُعرف الآن بميدان التحرير؛ إلى أن حجبها مبنى «مجمع التحرير» لاحقاً.. ليروى راعى الكنيسة الحالى سامح موريس، أن الراعى الأول للكنيسة القس إبراهيم سعيد روى أن الملك فاروق بعد موافقته على بناء الكنيسة فى مكانها سنة 1944، عاد وضاق بها لأنه كان يتمنى أن يصير خليفة للمسلمين بعد سقوط الخلافة، فأمر بألا يرتفع برج الكنيسة أكثر، ثم أمر بمبنى حكومى ضخم يحجب الكنيسة عن الميدان. يروى القس موريس، عبر موقع الكنيسة الإلكترونى، أن القس إبراهيم سعيد، علق على ترحيل الملك فاروق إلى إيطاليا، فقال: «لقد كره الملك فاروق أن يرى صليباً واحداً فأرسله الله إلى حيث لا يرى إلا صلباناً». هى دار عبادة، فلا تغيب عن أركانها الصلبان، وأيقونات للمسيح ابن مريم منقوشة على زجاج النوافذ، وشاشات عرض تعمل فى أوقات جلسات العظات، فى الداخل تكتظ القاعة الكبرى للكنيسة بمقاعد للوافدين المنصتين إلى عظات القساوسة، وأولئك المغمضين أعينهم وقت الصلاة والباسطين أيديهم أمامهم وهم يرنمون: افتح كوى السموات لسكيبك.. سكيب الروح أنت تفتح، وليس من يُغلق إلى جانب كونها دار للعبادة، يذكر ماجد عادل، كيف تتحول ساحتها الأمامية إلى مستشفى ميدانى يستقبل المصابين دون النظر إلى خانة الديانة فى بطاقات أرقامهم القومية، وكيف تتحول إلى ممر فى أوقات الهدوء تصل بين شارع قصر العينى وميدان التحرير، بعدما نُصبت الجدران الفاصلة. ارتباط اسم «قصر الدوبارة» بأحداث الثورة نتيجة طبيعية لاستقبال الكنيسة المستشفى الميدانى، هكذا يرى ماجد عادل، فبعدما هبت رائحة الغاز المسيل للدموع على المستشفى الرئيسى بالميدان، طلب الأطباء نقل المستشفى إلى الكنيسة؛ فوافق راعيها القس الدكتور سامح موريس. ليالٍ لم تنم فيها الكنيسة كى تستريح؛ سهرت مع الساهرين فى الميدان ومحيط الاشتباكات، البطاطين الملقاة على أرض ساحة الكنيسة الخارجية والأسرة الطبية كلها كانت فى استقبال المختنقين بالغاز والمصابين بجروح من الاشتباكات الدائرة خارج الكنيسة بين المتظاهرين وقوات الأمن، وبحسب ما يرويه مديرها، فقد سمحت الكنيسة آنذاك للكل بالصلاة داخلها؛ الكل صلّى للوطن بفاتحة الكتاب و«أبانا الذى فى السموات». انقضت التظاهرات، أو انتقلت إلى مسرح ثانٍ، لتعود الكنيسة إلى سيرتها الأولى «دار عبادة» ومحل احتفال بأعياد المواطنين المسيحيين، يشاركهم فيها شركاؤهم المسلمون؛ فتقف المسلمات بأحجبة فوق الرؤوس ومسيحيات مسدلات شعورهن يوحدون الصوت عند الترنيم: مبارك شعبى مصر.. دا وعدك من سنين خيرك أكيد لأنك إله صادق أمين تيجى بغناك وتملا بيوت المحرومين ويفيض النيل ويروى جموع العطشانين وصوت الحزن يسكت نرنم فرحانين مبارك شعبى مصر