صادفت -فى الأيام القليلة الماضية- أكثر من مناسبة تتصل-بشكل مباشر أو غير مباشر- بأقباط مصر، تستحق تناولها والتعليق عليها، ولكنها تستدعى أيضاً، وربما كان ذلك هو الأهم، العديد من الأفكار والمبادئ التى أعتقد أنه يتحتم اليوم التذكير بها والتأكيد عليها! المناسبة الأولى، كانت الثلاثاء قبل الماضى -12 مارس- عندما لبيت الدعوة الكريمة المرسلة باسم الكاردينال الأنبا أنطونيوس نجيب، لحضور مراسم تنصيب الأنبا إبراهيم إسحق سدراك، بطريركاً للكرسى الإسكندرى وسائر الكرازة المرقسية للأقباط الكاثوليك، وذلك بكاتدرائية السيدة العذراء بمدينة نصر. الدعوة، كانت حافزاً لى -قبل الذهاب- لأن أستذكر وضع وتاريخ الكنيسة القبطية الكاثوليكية فى مصر، التى يقدر عدد أتباعها بربع مليون مواطن معظمهم يقيم فى مصر، وبعضهم يقيم فى عدد من بلدان المهجر. ويتوزع الأقباط الكاثوليك فى مصر بين سبع «إبراشيات» فى الأقصر، وأسيوط، وسوهاج، والمنيا، والجيزة، والإسماعيلية، والإسكندرية. وتتبع الكنيسة الكاثوليكية مائة وثمان وستون مدرسة كاثوليكية تضم حوالى 125 ألف تلميذ وتلميذة موزعة فى أغلب المدن المصرية، وتضم أبناء المصريين من كافة الديانات، وتوفر لهم تعليماً راقياً ومتميزاً بتكاليف معقولة، كما تدير الكنيسة الكاثوليكية مستشفى كبيراً فى أسيوط، فضلاً عن مستوصفات ومراكز صحية فى مناطق مختلفة من البلاد. الأقباط الكاثوليك إذن -وبالرغم من قلة عددهم- يقومون بأدوار ومهام اجتماعية وخدمية راقية ومشرفة بصمت وهدوء. لقد انعكس هذا كله على الاحتفال المهيب لتنصيب البطريرك الجديد والذى كان -وبحق- حدثاً مصرياً بامتياز! سارت مراسمه على نحو وقور وراق إلى أن وصلت إلى تنصيب الأنبا إبراهيم إسحق سدراك وجلوسه على كرسيه وسط تصفيق وحماس مؤثرين. خطوات الاحتفال والتنصيب كانت مسجلة سلفاً بكل دقة فى «كراس» وزع على الحاضرين.. وفى ختام الاحتفال قُرئ الخطاب المرسل من البابا بنديكتوس (بابا روما)، وكذلك خطاب الكاردينال رئيس مجمع الكنائس الشرقية فى روما، قبل أن يلقى البطريرك الجديد كلمته التى كانت رائعة فى بلاغتها، فضلاً عن دقتها العربية النحوية الجميلة والملفتة! التى أتمنى أن تكون قد طبعت لتتاح قراءتها والتعلم منها، والتى أتذكر منها قوله للحضور: «ينبغى أبداً ألا نخاف من بعضنا البعض، وإنما نخاف على بعضنا البعض»، وقوله بثقة وإيمان: «إن المصرى قد ينحنى، ولكنه لا ينكسر»! كانت الكلمات صادقة وقوية، ثم كانت ردود الفعل من جمهور الحاضرين لكلمات الشكر التى أرسلها لمؤسسات ورجالات الدولة التى حضرت الاحتفال، مثيرة وبالغة الدلالة، بل ومؤشراً على هواجس ومخاوف وكذلك على آمال وتطلعات الشعب المصرى! المناسبة الثانية، كانت بعدها بيومين وتحديداً فى صباح الخميس الماضى (14 مارس) وهى المؤتمر الذى نظمته فى أحد فنادق القاهرة جريدة «المشاهير» مع مركز ابن خلدون للدراسات الاجتماعية ومركز «الوحدة الوطنية» تحت عنوان: «مآثر الرأسمالية الوطنية آل ساويرس نموذجاً»، بمناسبة القرار الذى صدر مؤخراً بمنع رجلى الأعمال البارزين أنسى ساويرس ونجله ناصيف ساويرس من السفر، وترقب الوصول لمصر! ومع إننى -ابتداءً- أدرك جيداً تفضيل الصديق العزيز نجيب ساويرس لوصفه وعائلته بأنهم مصريون قبل أن يوصفوا بأنهم «أقباط»،فإنه من الصعب -للأسف الشديد- تجريد ما تم من إجراءات إزاء آل ساويرس، من تلك الشبهة الطائفية فى السلوك الحكومى «الإخوانى». لقد كان شعورى الأول أن القضية المثارة تستلزم لمناقشها مؤتمراً أوسع وأشمل بكثير من ندوة محدودة بأحد الفنادق وعلى أية حال، فقد تشرفت بأن أزامل فى هذا المؤتمر كلاً من الأستاذة تهانى الجبالى، والسفير محمد شاكر، والدكتورة جنات السمالوطى، فى جلسة أدارها السيد ناجى وليم، فى حضور سعد الدين إبراهيم. وكان من الطبيعى أن يجمع المتحدثون جميعاً على أنه إذا كانت هناك «مشكلة ضرائب» ما مع آل ساويرس، فلا شك أنه كانت توجد العديد من الطرق التى يمكن من خلالها حل المشكلة، ولكن بشرط توافر النية لدى النظام القائم، ولكن هذا لم يكن الحال، وتم إصدار قرارات منع السفر وترقب الوصول لاثنين من كبار رجال الأعمال ليس فى مصر فقط، وإنما على مستوى العالم، ليحدث ذلك ضربة لا يمكن إنكارها لمناخ وسمعة الاستثمار فى مصر، بكل ما يحمله ذلك من تأثيرات شديدة السلبية على الاقتصاد المصرى. أما المناسبة الثالثة، فكانت هى حلول ذكرى ثورة 1919 فى التاسع من ذلك الشهر، والتى تجسد المولد الحديث «للأمة المصرية» من خلال النضال الخالد المشترك لأبنائها من المسلمين والمسيحيين تحت شعارى وحدة الهلال مع الصليب، والدين لله والوطن للجميع. وبعبارة أخرى، فإن ظهور «مصر» فى العالم المعاصر «كدولة - أمة» وفق المفهوم الحديث، كان مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً ليس فقط بظفرها بالاستقلال، ثم بمولد دستورها الحديث فى 1923، وإنما أيضاً انصهار أبنائها -مسلمين ومسيحيين- فى بوتقة واحدة، كمواطنين متساوين فى كافة الحقوق والواجبات بلا أى تمييز، على أى أساس. انطلاقاً من هذه المناسبات جميعاً، وفى وسط مناخ أخذت تتصاعد فيه للأسف -وفى ظل حكم «الحرية والعدالة»، والإخوان المسلمين- دعوات وصيحات، تنسب نفسها للإسلام، لا تشدد فقط على التفرقة بين مسلمى مصر ومسيحييها وإنما تستهدف أقباط مصر وتسىء إليهم، كان من المنطقى تماماً أن يشعر «الأقباط» على اختلاف مذاهبهم -اليوم- بضيق وقلق لا يخطئه إحساس أى مصرى أصيل. هو فى يقينى قلق مفهوم ومشروع، بل لقد أخذت تصاحبه -بكل أسف- ميول لدى بعض الأقباط للتفكير فى الهجرة من وطنهم مصر. غير أن الإحساس بالحزن، أو الخوف، أو العودة إلى العزلة، أو التفكير فى الهجرة.. . إلخ، لا ينبغى أبداً أن يكون هو رد الفعل لكل تلك المظاهر السلبية التى أخذت تخيم على الحياة فى مصر. إن الحل الوحيد -على العكس تماماً- هو فى تضافر كافة القوى المدنية (مسيحيين ومسلمين) من أجل الحفاظ على روح مصر وهويتها المتفردة والتى بلور جمال حمدان جوهر شخصيتها القومية فى «التوسط والاعتدال» أو كما صاغها: ملكة الحد الأوسط. علينا جميعاً (مسلمين ومسيحيين) أن نتذكر أن ثورة مصر العظيمة شارك فيها -بلا أى لبس أو غموض- المصريون جميعاً، مسلموهم ومسيحيوهم، وعلينا أن نتذكر «أخوة الميدان» التى جمعت بين المسيحية مرتدية الصليب، والمسلمة المحجبة، والتى شهدت -مرات عديدة- شباب المسيحيين وهم يحيطون بالمصلين المسلمين ويحرسونهم، علينا أن نتذكر شهداء الأقباط الذين سقطوا فى غمار تداعيات الثورة وتقلصاتها مع الشهداء من مواطنيهم المسلمين، فالرصاص الحى وطلقات الخرطوش لم تفرق بين مسلم ومسيحى! عليناجميعاً أن نقول بوضوح «لحزب الحرية والعدالة» إن شرعيته فى حكم مصر ترتبط بقدرته على أن يتيح للمصريين جميعاً الفرصة والحق فى حكم بلادهم، على أساس المواطنة والكفاءة فقط - وليس وفقا لأى معيار آخر. علينا أن نقول له إن «الأخونة» التى تورط فيها الحزب بفجاجة: والتى تنطوى بالضرورة على إقصاء غير «الإخوان» من المسلمين، تنطوى -بالأولى- على إقصاء وتهميش أقباط مصر، وهذا أمر مرفوض! على «الحرية والعدالة» أن يثبت أنه حزب للمصريين جميعاً، و«لتمكين» المصريين جميعاً من حكم بلادهم، وليس لتمكين «الإخوان من التحكم فى بلدهم»، وحتى اليوم فإن الإشارات والإرهاصات لا تبشر بأى خير! ولعل واقعة عدم تنبه رئاسة الجمهورية، أو رئاسة الحرية والعدالة لتعارض مواعيد الانتخابات مع مواعيد الأعياد القبطية كانت لها دلالتها الخطيرة، وبعبارة موجزة، فإن «حكم مصر» بواسطة حزب سياسى العضوية فيه مرتبطة -فعلياً- بالانتماء إلى دين، ينطوى بالضرورة على نوع من الحكم الطائفى المرفوض، فإذا أضفنا إلى هذا كله، التواضع الشديد فى مستوى أداء ذلك الحزب، وندرة كفاءاته وكوادره، بدت لنا فداحة المصيبة، التى يتعين معها أن نقول لمواطنينا الأقباط: المصيبة ليست مصيبتكم فقط، إنها مصيبتنا جميعاً: مسلمين وأقباطاً.. ولنشترك معاً فى مواجهتها، ولتكن الثورة مستمرة!