كان موعدنا التاسعة صباحا، أوصلنا الزحام فى العاشرة، بعدها كان لكل دقيقة طعم مختلف عن التى سبقتها، كان للزمن بينهم حسابات أخرى وللوقت ملامح «شكل تانى». من أول لحظة بمجرد الوصول، كان هناك شىء مختلف، فالرحلة لها طابع خاص، حركة شطرنج لمربع مجهول اسمه «الأوتيزم»، كان يجب أن نتحركها لعلنا نكشف قليلا بعضا من غموض هذا المرض الغامض. كانت الابتسامة أول ما يقابلنا، التفاؤل والإصرار فى كل بقعة هو الأساس، ملامح الاطمئنان والرضا والفخر والسعادة هى التعبيرات الثابتة والمشتركة بين كل الوجوه، التى تقف وتستعد لتبحر معنا فى هذه الرحلة المدهشة. كان فى استقبالنا مى مرسى سليمان مديرة التربية والتعليم الخاص ومسئولة شئون الطلاب بمركز «تقدم»، وإن شئت الدقة: دينامو الزيارة الذى لم يهدأ. رسمت مضيفتنا الخطة الزمنية والمكانية للزيارة بشكل منظم ومحدد أعطانا انطباعا بأن أصحاب التوحد الأكثر حفاظا على الرتابة و«السيستم»، ربما يفيد المحيطين بهم لدرجة تجعلهم الأكثر دقة وتنظيما، داخل هذه الخلية التى لا تهدأ، توجهنا بصحبتها إلى فصول التعليم بالدور الأول، حيث كان لنا شرف اللقاء مع كتيبة مدهشة من الأطفال والشباب المتعرضين لاختبار التوحد، وبينما هم فى حصة دراسة وتدريب، فإن ابتسامة الترحيب لم تفارق وجوههم البريئة، وعندما دخلنا إلى ما يطلق عليه الفصل التعليمى بالدور الثالث كانت الكتيبة الثانية، التى لا تقل عبقرية فى انتظارنا، ونعنى مجموعة المدرسين المحترفين فى مجال تعليم «الأوتيزم»، ورغم الترحيب بنا فإن وقت الدروس كان شيئا مقدسا، آثروا ألا يضيعوه، فكل شىء هنا محسوب بالثانية. اقتربنا منهم لنجد وسائل تعليمية غاية فى الاحتراف، هناك من يتعلم ترتيب الحروف، ومن يتعلم تنسيق المربعات، ولاحظنا أن أسلوب التعليم يحتاج إلى خبرة كبيرة، حيث يمتزج أسلوب التدليل مع الانضباط، والحب مع الاحترام بمزيج فريد، يجعل من العلاقة بين الطالب والمدرس منظومة متكاملة ومنتظمة، تعطى أكبر النتائج وأعلى المعدلات فى عملية تأهيل «الأبطال الصغار». كان من المدهش لنا، طوال طريقنا داخل المركز، هذا الكم الهائل من الأعمال الإبداعية المعلقة على كل الحوائط تقريبا، سواء فى الطرقات أو بين الفصول وجدران السلالم، كلها أعمال تستوقفك فلا تملك إلا أن تندهش، وتسأل فى قرارة نفسك هل هذه الإبداعات الحقيقية من صنع أطفال الأوتيزم؟ وهل هذه اللوحات الرائعة من نسج خيالهم؟ لم أتردد فى التوجه بالسؤال إلى «محمد» مدير المركز الذى صاحبنا فى جزء بسيط من الجولة، ورحب بنا بحرارة، وابتسم وكأنه يتوقع السؤال، قائلا: من الطبيعى أن تسأل سؤالا كهذا، فأغلب من يرى هذه الأعمال لا يصدق أنها من إنتاج أولادنا ولكنى أؤكد لك ذلك، فهذا ما ستتأكد منه بنفسك حينما تتوجه إلى الورشة الفنية. قررت على الفور أن أمتع عينىَّ بكل ما تريانه، وتكتمل متعتى بتخيل هؤلاء العباقرة، وهم يتقنون فنهم ويخرجون إبداعهم أمام زميلى محمود المصور، فلم تقل دهشته عنى وراح يطلق لكاميرته العنان ويلتقط صورا لكل ما يراه، وهو فى حال من السعادة والتأثر يناسب تماما هذه الرحلة الفريدة. فى الورشة خلية نحل لا تهدأ، عدد كبير من البشر ما بين مدرب ومتدرب، تربطهما علاقة المتعة والاستمتاع بالإبداع والبحث عن هدف واحد، هو الفوز بالتشجيع فالمدرب، حينما ينجح فى وصول متدربه إلى إنتاج ما دربه عليه، وإمساك هذا المنتج فى النهاية بيديه، سيكون هو أيضاً فائزا يستحق التشجيع، أما المبدع الذى أطلق هذا الإبداع فالتشجيع وكلمة «برافو» هى أقصى أمانيه، خاصة لو صاحبها تصافح بالأيدى، وقد لاحظنا كم يؤثر هذا إيجابيا على استمرار المتدرب فى العمل بإتقان شديد. فى الورشة عباقرة من جميع الأعمار وحينما سألنا «سيد» أحد المسئولين عن تدريب الشباب عن الحياة داخل الورشة، قال: من أمتع اللحظات التى تمر على الأولاد فى يومهم اللحظات التى تمر عليهم داخل الورشة، وهنا لأنهم يرون إنتاجهم بعيونهم، ويمسكون إبداعهم بأيديهم، ويحسون بأنهم بذلوا جهدا وتحول إلى نتيجة ملموسة، تلقوا عليها تشجيعا هائلا من جانب كل المحيطين بهم، وهى ليست عملية نفسية وتدريبية وترفيهية فقط، إنما عملية علاجية أيضاً وتسهم بقدر كبير جدا فى نجاح التأهيل الذى يتلقاه الطفل، ونحن هنا نعتمد على أن يتقن الطفل العمل الذى يحبه، حتى لا يكره ما يفعله، فيتحول وقت الورشة إلى وقت ممل. ويضيف مفتخرا بما يعرضه علينا من «إبداع أولاده»: انظر إلى هذه الأعمال وتخيل مدى الجهد الذى يتطلبه إنتاجها بالنسبة للشخص العادى، فما بالك بشخص ذى إعاقة من هذا النوع الذى يحجم قدراته العقلية، ولهذا فنحن نحتاج إلى صبر شديد، أثناء عملية التدريب ليصل المتدرب إلى هذه المرحلة الرائعة التى تراها، أضف لذلك أن عيوننا يجب أن تكون فى وسط رؤوسنا وتركيزنا، بحيث يصل إلى أعلى درجاته داخل الورشة، نظرا لما تحتويه بين جدرانها من أدوات، يمكن أن يصيب الطفل بها نفسه ومن حوله، مثل المنشار والمطرقة والشنيور والإبر وغيرها، وهو شىء فى منتهى الخطورة، ويمكن ألا يجعله يدخل الورشة مرة أخرى، إذا ما ربط علاقته بها بلون الدم وإحساس الألم، وهو ما نحرص كل الحرص على ألا يحدث. تركتنا «مى» وسلمتنا لأحد رجال الخدمات بالمركز، لتباشر عملها، انتقلنا إلى مبنى آخر ملحق، يحتوى بين جدرانه أطفال الحضانة أو ما يطلق عليه مبنى ال «atc» حيث كان للمشهد هناك طابع آخر. فى استقبالنا كانت هناك لا تختلف عن زميلتها مى كثيرا من حيث النشاط والتفاؤل والإصرار على أن تخرج ورفاقها جيلا يحمل كلمة الأمل، كانت يسرا ماهر نائب مدير التربية الخاصة دليلنا فى الزيارة الجديدة داخل المبنى الثانى، وهناك استقبلتنا وفى عقلها خطة للزيارة الثانية، والتى بدأت بزيارة ملائكة المركز الصغار، لأن الكبار أيضاً ملائكة، لا يعرفون عن الحياة إلا أجمل ما فيها «البراءة». لاحظنا كيف يعشق الأطفال هذه السيدة، ويلقون بأنفسهم فى أحضانها، بمجرد دخولها إليهم، لتتلقاهم بحضن هو مزيج من الرحمة والحزم والعطف بلا تدليل. جلست يسرا وسط الأطفال لتعرفهم على «عمو» اللى ماسك الكاميرا ويصورهم «دلوقت لازم الصورة تطلع حلوة»، أشارت «اقعد يا يوسف» و«تعالى يا نونة». سألناها: العمل هنا له مذاق آخر، أليس كذلك؟ أجابت: هنا ندرك حجم المسئولية التى تقع علينا أمام الله وضمائرنا والأهالى، لذلك فكل شىء يجب أن يسير على أفضل وجه دون احتمالات للخطأ، وعلشان كده أنا مضطرة استأذن لأن الأولاد عندى معاهم حصة مهمة ولا أستطيع مغادرة الفصل لأى ظرف، اتفضلوا صوروا كيفما تريدون لكن من الضرورى أن تكون لكم جولة فى القاعة الرياضية لأن الدنيا فيها شكل تانى. ما زالت الجدران تسرد أمام أعيننا حكايات الإبداع المعلق عليها فى صورة أعمال فنية، رسومات، نسيج، وكل ما تحب أن تراه يزين حياتنا. وفى القاعة الرياضية سلمتنا «يسرا» إلى دليل ومرافق جديد، هو الكابتن محمد عبدالفتاح ورفاقه من الكتيبة الرياضية المدهشة. أحمد يعلم نفسه ويتشاور مع مدربه على طاولة تنس الطاولة. الرياضة هنا فى منظومة العمل مع «المتوحد» حكاية كبيرة جدا تحتاج إلى حديث خاص بها، يسرد ويعزف منفردا، ما ستجده على أرض هذا التحقيق الفريد، لكن لا نستطيع أن نمر من هنا دون أن ننقل لكم نموذج الصالة الرياضية التى تدل على أن كل شىء ممنطق ومدروس، كيف لا وهم يتعاملون مع أكثر الناس فى رؤية الأمور بمنطقية: «المتوحدون». الشىء اللافت للانتباه والمتكرر فى كل القاعة هو وسائل الأمان لحماية الأطفال وهذا ما أكده جميع المدربين. بين كل أم وأم فى هذا المكان الساحر تجد أماً أخرى جالسة تبتسم لك وترسل لك دون كلام رسالة شكر على أنك هنا بينهم، تفكر فيهم وتبرز جمال عالمهم، هن «دادات» المركز، واللائى لم أستطع حصر عددهن أثناء الرحلة، فهنا واحدة تجلس عند مدخل كل دور وهنا اثنتان تقفان عند أبواب الفصول وأربع منهن فى الحديقة يلاحظن الأولاد فى منطقة اللعب وغيرهن وغيرهن. اقتربت من «دادة أم محمد» سألتها: بتحبى الولاد؟ ردت والبسمة ترتسم على كل ملامحها «هما دول فيه حد ما يحبهمش، دول ملايكة، وهما اللى ربنا بيسامح الناس علشانهم، دول الرحمة اللى ربنا سايبها على الأرض علشان الناس تعرف قيمة النعمة اللى هما فيها، دول حبايبى يا أستاذ، مش تقولى بحبهم، دانا بأموت فيهم». سألتها: لكن خدمتهم ليست سهلة وأكيد «عايزة صبر»؟ ترد بسرعة واستنكار: «وماله، وإيه يعنى، ده حقهم علينا مش كفاية إن ربنا حرمهم من نعمة الصحة كمان هنستخسر فيهم التعب، وبعدين هو فيه أحلى من التعب وأنت بتخدم ملايكة، دول يمكن هما اللى يدخلونا الجنة، وبعدين ماانت عارف ياما فيه ناس بتتعب فى الهلس والكلام الفاضى اللى لا يقدم ولا يأخر، دول على الأقل يستاهلوا الخدمة والواحد يخدمهم بعينيه، دا غير إن أهلهم ناس محترمة وعارفة ربنا، ويستاهلوا إننا نراعى ولادهم زى ما ربنا علمنا». أخبار متعلقة: «الوطن» تقضى يوماً فى مركز تحويل «محنة الأوتيزم» إلى «منحة» مصاب بالتوحد والإعاقة وبطل مصر فى السباحة.. «كريم» يا «عادل» الرياضة بالنسبة لهم.. «مفتاح» الحياة «يوسف العبقرى» كاريزما تتحدث عن نفسها «النجم» عمر.. عزف الإبداع على «نول» المهارة مها هلالى: الطفل المريض يواجه «العجز».. والمجتمع يصيبه ب«الإعاقة»