وسط دموعه، قال متولى (29 سنة) أحد الناجين من مركب الهجرة غير الشرعية الغارق بالبحيرة: «سامحنى يا بنى.. يا ريتنى مت قبلك وقبل ما أشوف اليوم ده، حاولت أعيشك عيشة نضيفة ما تتعبش فيها زى أبوك، لكن موتك انت وأمك»، ثم انهار فى البكاء، متابعاً: «أنا مش مصدق كل اللى حصل ده، كابوس طويل ومرير.. يا رب أكون نايم.. يا رب أصحى ألاقى ابنى ومراتى وألاقى نفسى على البر». الكلام السابق ليس فقرة فى رواية، أو جزءاً من دراما، إنه كلام واقعى أفرزه قلب أب مفطور على ولده وزوجته، من ضحايا مركب الهجرة غير الشرعية الغارق، واضح أن الأسرة كاملة كانت مهاجرة، فغرق الابن والزوجة، ونجا الأب ليعيش نهباً للحزن والألم، ليس بإمكان أحد أن يبرر قراراً يتخذه إنسان بركوب البحر محشوراً فى قارب مهترئ، وسط أنفس بشرية ينوء بها المركب الذى يحملها، ليس بإمكان أحد أن يبرر هكذا مجازفة، لكن أحداً لا يستطيع أيضاً أن يفلت من التماس العذر لمن يفعل ذلك، بإمكان الكثيرين توجيه سهام اللوم إلى الضحية، لكن لو أن أحداً من هؤلاء عاش ظروفه فربما أتى الفعل نفسه، وركب البحر وهاجر. الناس معذورة، خصوصاً أهالينا فى قرى ونجوع مصر، الفقر يعصر الجميع، غلاء يضربهم من كل اتجاه، وأسعار ترتفع من ساعة إلى ساعة، بنود للصرف لا تنتهى على الطعام والشراب والملبس والمسكن والتعليم والعلاج، وفوق ذلك حالة «وقف حال» غير مسبوقة، مشروعات تتوقف، واستثمارات لم تعد تعرف لها طريقاً إلى أرض المحروسة، ومصادر دخل قومى تتوقف، وموازنة عاجزة، وحكومة مفلسة، ووعيد لا يتوقف بالمزيد من الغلاء، ماذا يفعل أهالينا فى قرى ونجوع مصر ومحافظاتها أمام هذا الابتلاء؟! الناس معذورة، إذ تحاول أن تطرق أبواباً للرزق وتحقيق الأحلام، بعيداً عن دفء الوطن، حتى لو اقتضى ذلك منها ركوب الخطر، والعجيب أنه لم يعد يصدها عن ذلك قصص الموت التى يسمعونها من حين إلى آخر، لأناس حلموا قبلهم برزق جديد فى أرض جديدة، وغرقوا قبل أن يصلوا. الفقر مصيبة.. والفقر مع التطلع كارثة.. الفقر ليس جديداً علينا، الفقر موجود فى كل زمان ومكان، تجارب فقر عديدة عصرت المصريين من قبل، لكن ذلك لم يدفعهم إلى ركوب الموت من أجل الخلاص، ثمة جديد طرأ على حياة المصريين خلال العقود الأخيرة، إنه التطلع الذى يزيد وطأة الشعور بالفقر، التطلع الذى يجعل الفقر مذلة وحرماناً وإحساساً بالدونية، بسبب ما يبصره الفقير من حوله من استفزازات، يأتيها أناس جمعوا المال بالطرق المشروعة أو غير المشروعة، زمان كان الفقر وقوداً وعامل دفع لصاحبه، لكى يحاول أن يخرج من براثنه، كان ذلك كذلك حين كان الاجتهاد فى الحياة قيمة، والسعى على الرزق الحلال شرفاً، وتجارب الفقر مصدراً للتفاخر، الزمان اختلف، ومعه اختلفت حياتنا وثقافتنا، وأصبح التطلع الاستهلاكى المحرك الأول لحياتنا، حتى ولو كان الثمن هو الحياة نفسها!.. فليرحم الله المصريين أمواتاً وأحياء!