حريق يلتهم 4 أفدنة قمح في قرية بأسيوط    متحدث الصحة عن تسبب لقاح أسترازينيكا بتجلط الدم: الفائدة تفوق بكثير جدًا الأعراض    بمشاركة 28 شركة.. أول ملتقى توظيفي لخريجي جامعات جنوب الصعيد - صور    برلماني: مطالبة وزير خارجية سريلانكا بدعم مصر لاستقدام الأئمة لبلاده نجاح كبير    التحول الرقمي ب «النقابات المهنية».. خطوات جادة نحو مستقبل أفضل    ضياء رشوان: وكالة بلومبرج أقرّت بوجود خطأ بشأن تقرير عن مصر    سعر الذهب اليوم بالمملكة العربية السعودية وعيار 21 الآن ببداية تعاملات الأربعاء 1 مايو 2024    600 جنيه تراجعًا في سعر طن حديد عز والاستثماري.. سعر المعدن الثقيل والأسمنت اليوم    تراجع أسعار الدواجن 25% والبيض 20%.. اتحاد المنتجين يكشف التفاصيل (فيديو)    خريطة المشروعات والاستثمارات بين مصر وبيلاروسيا (فيديو)    بعد افتتاح الرئيس.. كيف سيحقق مركز البيانات والحوسبة طفرة في مجال التكنولوجيا؟    أسعار النفط تتراجع عند التسوية بعد بيانات التضخم والتصنيع المخيبة للآمال    رئيس خطة النواب: نصف حصيلة الإيرادات السنوية من برنامج الطروحات سيتم توجيهها لخفض الدين    اتصال هام.. الخارجية الأمريكية تكشف هدف زيارة بليكن للمنطقة    عمرو خليل: فلسطين في كل مكان وإسرائيل في قفص الاتهام بالعدل الدولية    لاتفيا تخطط لتزويد أوكرانيا بمدافع مضادة للطائرات والمسيّرات    خبير استراتيجي: نتنياهو مستعد لخسارة أمريكا بشرط ألا تقام دولة فلسطينية    نميرة نجم: أي أمر سيخرج من المحكمة الجنائية الدولية سيشوه صورة إسرائيل    جونسون: الاحتجاجات المؤيدة لفلسطين داخل الجامعات الأمريكية نتاج للفراغ    قوات الاحتلال تعتقل شابًا فلسطينيًا من مخيم الفارعة جنوب طوباس    استطلاع للرأي: 58% من الإسرائيليين يرغبون في استقالة نتنياهو فورًا.. وتقديم موعد الانتخابات    ريال مدريد وبايرن ميونخ.. صراع مثير ينتهي بالتعادل في نصف نهائي دوري أبطال أوروبا    معاقبة أتليتيكو مدريد بعد هتافات عنصرية ضد وليامز    موعد مباراة الأهلي والإسماعيلي اليوم في الدوري والقنوات الناقلة    عمرو أنور: الأهلي محظوظ بوجود الشناوي وشوبير.. ومبارياته المقبلة «صعبة»    موعد مباريات اليوم الأربعاء 1 مايو 2024| إنفوجراف    ملف رياضة مصراوي.. قائمة الأهلي.. نقل مباراة الزمالك.. تفاصيل إصابة الشناوي    كولر ينشر 7 صور له في ملعب الأهلي ويعلق: "التتش الاسطوري"    نقطة واحدة على الصعود.. إيبسويتش تاون يتغلب على كوفنتري سيتي في «تشامبيونشيب»    «ليس فقط شم النسيم».. 13 يوم إجازة رسمية مدفوعة الأجر للموظفين في شهر مايو (تفاصيل)    بيان مهم بشأن الطقس اليوم والأرصاد تُحذر : انخفاض درجات الحرارة ليلا    وصول عدد الباعة على تطبيق التيك توك إلى 15 مليون    إزالة 45 حالة إشغال طريق ب«شبين الكوم» في حملة ليلية مكبرة    كانوا جاهزين للحصاد.. حريق يلتهم 4 أفدنة من القمح أسيوط    دينا الشربيني تكشف عن ارتباطها بشخص خارج الوسط الفني    استعد لإجازة شم النسيم 2024: اكتشف أطباقنا المميزة واستمتع بأجواء الاحتفال    لماذا لا يوجد ذكر لأي نبي في مقابر ومعابد الفراعنة؟ زاهي حواس يكشف السر (فيديو)    «قطعت النفس خالص».. نجوى فؤاد تكشف تفاصيل أزمتها الصحية الأخيرة (فيديو)    الجزائر والعراق يحصدان جوائز المسابقة العربية بالإسكندرية للفيلم القصير    حدث بالفن| انفصال ندى الكامل عن زوجها ورانيا فريد شوقي تحيي ذكرى وفاة والدتها وعزاء عصام الشماع    مترو بومين يعرب عن سعادته بالتواجد في مصر: "لا أصدق أن هذا يحدث الآن"    حظك اليوم برج القوس الأربعاء 1-5-2024 مهنيا وعاطفيا.. تخلص من الملل    هل حرّم النبي لعب الطاولة؟ أزهري يفسر حديث «النرد» الشهير (فيديو)    هل المشي على قشر الثوم يجلب الفقر؟ أمين الفتوى: «هذا الأمر يجب الابتعاد عنه» (فيديو)    ما حكم الكسب من بيع وسائل التدخين؟.. أستاذ أزهرى يجيب    هل يوجد نص قرآني يحرم التدخين؟.. أستاذ بجامعة الأزهر يجيب    «الأعلى للطرق الصوفية»: نحتفظ بحقنا في الرد على كل من أساء إلى السيد البدوي بالقانون    إصابات بالعمى والشلل.. استشاري مناعة يطالب بوقف لقاح أسترازينيكا المضاد ل«كورونا» (فيديو)    طرق للتخلص من الوزن الزائد بدون ممارسة الرياضة.. ابعد عن التوتر    البنك المركزي: تحسن العجز في الأصول الأجنبية بمعدل 17.8 مليار دولار    نصائح للاستمتاع بتناول الفسيخ والملوحة في شم النسيم    "تحيا مصر" يكشف تفاصيل إطلاق القافلة الإغاثية الخامسة لدعم قطاع غزة    القوات المسلحة تحتفل بتخريج الدفعة 165 من كلية الضباط الاحتياط.. صور    أفضل أماكن للخروج فى شم النسيم 2024 في الجيزة    اجتماعات مكثفة لوفد شركات السياحة بالسعودية استعدادًا لموسم الحج (تفاصيل)    مصدر أمني ينفي ما تداوله الإخوان حول انتهاكات بسجن القناطر    رئيس تجارية الإسماعيلية يستعرض خدمات التأمين الصحي الشامل لاستفادة التجار    الأمين العام المساعد ب"المهندسين": مزاولة المهنة بنقابات "الإسكندرية" و"البحيرة" و"مطروح" لها دور فعّال    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



إسكندرية.. عجوز البحر المتوسط!
مدينة التناقض والتطرف!
نشر في آخر ساعة يوم 21 - 05 - 2013

تغني لها الكثيرون؛ حباً في جمالها الساحر الذي لم يختلف عليه أحد. قالوا عنها "صبية" و"عروسة بحرها المالح"، لكنها لم تعد هي التي نعرفها، صارت "عجوز" بوجه عبوس لا تعرف الفرح إلا مع هطول المطر، الذي يغسلها من كل الهموم التي حلت بها، من تدهور وإهمال أدي إلي وصمها بلقب "أقبح مدينة في العالم"، حيث مياهها الملوثة بصرف الشركات، وأسماكها المسممة، وصيادوها المشردون بين السواحل العربية والأجنبية. كل هذا لم يعد شيئا أمام فقدان ثقة أهلها فيها، بعد أن احتل البلطجية شوارعها، وصاروا يخطفون عشاقا يحتمون بدفء شاطئها الخلاب. ومهما ارتفعت المباني التي تطل علي بحرها لن تستطع أن تمنع نسمات الهواء عن سكان العشش والعشوائيات. ستظل الإسكندرية دوماً ترسانة الأمل والقلعة التي تحمي جمال مصر من كل الحاقدين.
"إسكندرية أحسن ناس..عالبحر ماشية تتمختر.. من سيدي بشر لأبو العباس.. أيوووه يا عالم عالمنظر" غنتها السيدة داليدا المغنية المصرية الإيطالية في حب الإسكندرية، المدينة التي كانت قادرة أن تجمع لها بين وطنين، مباني أوروبا وجدعنة المصريين. هناك لا يمكنك أن تشعر بالغربة، كل شيء يحتويك؛ البحر والشوارع والكورنيش، كل شيء يقول لك " أهلاً بك في إسكندرية"؛ الترام، التاكسي الأصفر، حلقات السمك. كل شيء يعد بمثابة أيقونة تنفرد بها إسكندرية؛ جيلاتي عزة، الحنطور، الحبيبة. حقيقة ما بين الروح والهدوء والنسيم، تجد روحا أخري تدب فيك عندما تبتسم لها.
لا تزال رغم كل الوجع تحتفظ بسحرها وجمالها، الذي تنفرد به عن كل مدن البحر المتوسط، حتي قالوا عنها "عروسة بحرها المالح"، فهي ثاني أكبر مدينة بعد القاهرة، وتعتبر العاصمة الثانية لمصر والعاصمة القديمة لها، والتي أنشأها الإسكندر الأكبر سنة 332 ق.م عن طريق ردم جزء من المياه يفصل بين جزيرة ممتدة أمام الساحل الرئيسي تدعي "فاروس" بها ميناء عتيق، وقرية صغيرة تدعي "راكتوس" أو "راقودة". واتخذها الإسكندر الأكبر وخلفاؤه عاصمة لمصر لما يقارب ألف سنة، حتي الفتح الإسلامي لمصر علي يد عمرو بن العاص سنة 641ه.
تضم الإسكندرية بين طياتها الكثير من المعالم المميزة، إذ يوجد بها أكبر ميناء بحري في مصر هو ميناء الإسكندرية، والذي يخدم حوالي 80٪ من إجمالي الواردات والصادرات المصرية، كما اشتهرت عبر التاريخ بمكتبة الإسكندرية القديمة والتي كانت تضم ما يزيد عن 700 ألف مجلّد، ومنارة الإسكندرية والتي اعتبرت من عجائب الدنيا السبع؛ لارتفاعها الهائل الذي يصل إلي حوالي 35 مترًا، وظلت هذه المنارة قائمة حتي دمرها زلزال قوي سنة 1307.
والآن تتعرض أهم معالمها الأثرية إلي الإهمال والتدهور، نتيجة لحالة الانفلات الأمني التي تعاني منه المدينة بعد ثورة 25 يناير، الأمر الذي انعكس بصورة كبيرة علي حي الجمرك - أهم الأحياء الشعبية بالمدينة - ويعرف باسم "بحري"، والذي وجدنا شاطئه محتلا بجميع الباعة المتجولين، وأصحاب الشماسي المتواجدين رغما عن الأهالي، بينما تحول رصيفه إلي ساحة لسباق الموتوسيكلات، فيقول عبد المنعم الحناوي تاجر بازار وآثار بحرية بحي الجمرك إن الحياة تغيرت كثيراً عن السنوات الماضية، الناس اختلفت والأخلاق انحدرت، وصار التعدي علي حقوقك أمرا مُباحا، وبالنسبة لبحري فهي تعاني من تدهور كمنطقة سياحية، حيث الانفلات الأمني الذي يمارسه عدد من الشباب بصور مختلفة، كوجودهم بالموتوسيكلات واصطدامهم بالسائحين، وإذا تحدث أحد معاهم تنشب معركة بينهم، مضيفاً: " كانت الخدمة الأمنية قبل الثورة تحمينا من كل تلك الاعتداءات، حيث كان يوجد أكثر من 5 أمناء شرطة في الخدمة الصباحية، يقومون علي تأمين المكان والسائحين، أما الآن فقل سلام، الحمد لله لم يحدث أي أعمال إرهابية لكن لا يوجد أمان، وناشدنا أكثر من مرة مدير أمن الجمرك لكن لم يحدث شيء".
ويعدد الحناوي صور البلطجة التي تمثلت في فرض أصحاب الأكشاك والشماسي أنفسهم علي الشاطئ، رغماً علي الجميع، إضافة إلي حوادث السرقة التي انتشرت في الأيام السابقة، فيقوم بعض البلطجية بتثبيت شاب يمشي مع خطيبته لسرقتهم، متابعاً: "اعتقد اننا مش في صحرا.. احنا في بحري وراس التين أجمل أحياء إسكندرية"، مشيراً إلي أن رزق التجارة قل بنسبة 80٪ وطالما الأحداث غير مستقرة وهناك مظاهرات لن يكون هناك سياحة بسبب تعطيل الطرق، فقد أثرت المظاهرات علي السياحة الداخلية والخارجية، وصار اليوم يقف علينا ب 50 جنيها لا تكفي راتب أحد الصنايعية.
تركنا تاجر البازار لنتحدث مع إحدي الأسر التي تتنزه علي الشاطئ، رجل مع زوجته يستمتعون بهواء البحر، ويداعبان طفلهما الذي لا يتجاوز الثلاث سنوات، واللذين فقدا ثقتهما في الشاطئ بعد غياب الأمن فيقول هاني لطفي تاجر أدوات منزلية - "البلد في النازل مش في الطالع، حتي شوفي شوارعها واحكمي بنفسك، إسكندرية مدينة من أقدم مدن العالم، عمرها أكثر من 2300 سنة، في يوم من الأيام إسكندرية مكنتش تقدر تفرقها أبدا عن أي مدينة زي باريس في فرنسا أو روما في إيطاليا؛ نفس الشوارع والمباني والشواطئ، لكن دلوقتي الحال اتغير وبقت من أسوأ مدن العالم"، وتلتقط منه زوجته طرف الحديث: "أنا بقيت أخاف أنزل لوحدي من كتر حوادث الخطف والسرقة، الناس فهمت الثورة غلط، الثورة أخلاق مش بلطجة".
بينما يري أصحاب الشماسي ورحلات المراكب أنهم ليسوا ب "بلطجية" بل "علي باب الله" ومن حقهم البحث عن مهنة شريفة، فيقول علي بحرية إن الذين يعملون في مهنة الفراشة "أرزقية" يريدون لقمة العيش ب "حلال"، ومن الظلم أن يطلق عليهم بلطجية، لأنهم يساعدون الأهالي والزوار علي الاستمتاع بالبحر بأقل الأسعار، فيتم تأجير المركب ب 2 جنيه للفرد، في كل المواسم، مضيفاً: " أنا راجل أبو 3 عيال، بيدخلي 50 جنيها في اليوم وساعات لأ، والعيشة غالية والأسعار في ارتفاع كل يوم، والناس بقت تعبانة وكله بيبص لبعضه".
وعن قوانين العمل فيما بينهم يستكمل: "عددنا هنا 15 كشكا، لكل منا فرشة خاصة، تخصه، ولا يمكن أن يدخل أحد جديد علينا، لأننا اتعودنا علي الشغل مع بعض، وحتي لا تحدث خلافات، وهنا كل واحد بيقدر التاني، لو حد ماشي زبون يبقي تبعه، أما لو الزبون اختار مكانا معينا أسامح فيه مقابل تلت الثمن الذي يدفعه.
أما قلعة قايتباي فلم تعد ممتلئة بالزوار كما كانت، لقلة الأفواج السياحية. وتتميز القلعة بإحاطة البحر لها من ثلاث جهات، كما إنها تحتوي علي أسوار وبرج رئيسي في الناحية الشمالية الغربية، وتنقسم تلك الأسوار إلي سور داخلي (يشمل ثكنات الجند ومخازن السلاح) وآخر خارجي يضم في الجهات الأربعة أبراجا دفاعية ترتفع إلي مستوي السور باستثناء الجدار الشرقي الذي يشتمل علي فتحات دفاعية للجنود. وقد بناها السلطان الأشرف أبو النصر قايتباي عام 884ه لتكون بمثابة قلعة الدفاع عن بوابة مصر من الهجمات.
وتعاني القلعة من غياب تام للأمن علي أبوابها ما يجعل أصحاب المراكب يخطفون الزبائن من أمام البوابة، ويعطلون حركة خروج ودخول الزوار، فيقول نادر سلمان، مدير عام قلعة قايتباي، إن هناك تراخيا في حماية أمن القلعة، فهناك 6 عساكر بها فقط، رغم إننا نحتاج إلي أكثر من 20 حارسا لأن القلعة كبيرة وبها أسوار كثيرة، ما يجعلنا لا نستطيع السيطرة علي البلطجية الذين يقفون أمام البوابة، كما أن الأمن العام غير مُفعل، فصار مدخل القلعة جراجا للسيارات، ولم يكن هذا موجودا قبل الثورة، مشدداً علي أن رواج السياحة مرتبط بعودة الأمن إلي القلعة والأماكن الأثرية، ففي السنتين الماضيتين قلت إيرادات القلعة إلي أكثر من 50٪ فكانت في السابق حوالي 300 ألف جنيه إيرادات في الشهر، لكن بعد الثورة وصلت إلي 100 ألف جنيه.
إسكندرية لا تجمع بين حالة وسط، إما أرملة جار عليها الزمن أو عروسة في قمة جمالها، حتي الطقس يعبر عن مزاجها المتطرف، فعندما تشتي تهطل الأمطار بكثافة شديدة، وبعدما تتوقف السماء تعود الحياة إلي طبيعتها؛ شمس مُشرقة وأناس يتمتعون ببهجة الحياة. ففي ميدان محطة الرمل علي سبيل المثال تجد أجمل معالم مدينة الإسكندرية، حيث مقاهيها وشوارعها ومبانيها ذات الطرز الخلابة، وكما في الماضي لا تزال المحطة مهوي أفئدة الأصدقاء وطلاب المدارس والجامعات والوافدين من كل حدب وصوب. كرنفال مدهش من البشر والكل يبحث عن ضالته.. المثقف الذي ينقب عن أحدث الكتب والمطبوعات، والموظف الذاهب إلي عمله في هذا الحي التجاري الناشط، والسائح الراغب في تمضية وقت لطيف في أحد المقاهي أو المطاعم المنتشرة في كل ركن من أركان المكان.
المحطة ظهرت إلي الوجود مع تدشين ترام الإسكندرية، وكان المهندس الإيطالي الشهير أنطونيو لاشياك قد وضع تصميما أنيقا لها عام 1887 ومنذ تشييدها وهي تضج بالحياة. كما يتوسط المحطة تمثال الزعيم سعد زغلول الشاخص نحو البحر، للنحات محمود مختار عام 1938 تتوسطه حديقة طالها الإهمال والفوضي، كما كانت المحطة من قبل تحتضن مسلتي كليوباترا قبل نقلهما إلي بريطانيا والولايات المتحدة. ومن أجمل المباني التجارية المتاخمة لمحطة الرمل مبني الغرفة التجارية الذي صممه المعماري الفرنسي فيكتور لارانجير عام 1910.
وعلي الرغم من إيقاع الحياة الحديثة السريع لا يزال لمحطة الرمل ومحيطها لمحات أوروبية في كل شيء، حيث شيد معظم مباني المنطقة الإيطاليون والفرنسيون، وحرصوا علي تطعيمها بالألوان الزاهية وشتي أشكال الزخارف الإسلامية، ومن أهم هذه البنايات: فندق "سيسيل" بشرفاته الأنيقة وطرازه الفلورنسي، وصممه الإيطالي لوريا، وكان من أملاك الجالية اليهودية. وتجاور الفندق مقاه شعبية، بعضها يعود إلي أفراد الجالية اليونانية، ومواقف لعربات الحنطور الفولكلورية.
الوجه الآخر ل »الإسكندرية«:
عشوائيات غارقة في مياه السيول.. وانفلات عمراني غير مسبوق
ما إن تبعد عن الشاطئ، وتتوغل في قلب المدينة، وتعيش آلامها، تعرف أن الإسكندرية مهما تظاهرت قُبح جميل. فلم تعد كما تُصورها الأفلام القديمة والكتب عروس البحر المتوسط المتألقة صيف شتاء، ولم تعد تُشبه أوربا في تصميم مبانيها التي تنهار واحدا تلو الآخر، بل صارت واحدة أخري بوجه عبوس، لا يعرف سوي الهم الذي طالها منذ أن ظهرت فيها العشوائيات وانهارت البنية التحتية، وبعد أن غرقت في مياه كل من صرفها الصحي والسيول، لتجد في المقابل ظاهرة أخري علي وشك أن تنهار فوق كل تلك المأساة، وهي بناء المباني عن الحد غير المسموح، والذي ينذر بسلسلة من الانهيارات القريبة.
في الإسكندرية "30 " منطقة عشوائية بناء علي دراسات تمت مؤخراً لإعداد استراتيجية لتنمية وتطوير المناطق العشوائية بالاشتراك مع البنك الدولي، منها 6 مناطق في حي غرب وهي القباري ومأوي الصيادين والطوبجية ووابور الجاز وحرم السكة الحديد وكوم الملح، و8 في حي العامرية هي الدخيلة الجبلية وزاوية عبد القادر والعامرية القديمة والدريسة وعلام وغرب الهانوفيل ومستعمرة الجزام ومرغم ونجع عبد الروان وقبلي كينج مريوط، ومنطقتان في حي وسط هما نادي الصيد والحضرة الجديدة وتوابعهما، أما في حي شرق فيوجد 5 مناطق عشوائية هي المطار وتوابعها وجنايوتي وتوابعها وسكينة وتوابعها والظاهرية والمحروسة ودنا، وأخيراً في حي المنتزه الأكثر عشوائية توجد 9 مناطق هي خورشيد وتوابعها والمهاجرين وتوابعها ومحسن الكبري والعمراوي وسيدي بشر قبلي والعصافرة قبلي والمندرة قبلي والحرمين والمعمورة البلد.
عشش الغلبوني.. حياة فوق الأنقاض
ذهبنا إلي إحدي العشوائيات لرصد حالاتها، ووجدنا الأهالي في حالة يرثي لها، فهم غلابة يُسيطر عليهم مجموعة من البلطجية التي أحكمت قبضتها عليهم، كما الحال في منطقة الغلبوني بمنطقة القباري في حي غرب، والتي ظل يعاني أهلها منذ 30 عاما من انهيارات أرضية متكررة، أدت إلي هدم بيوتهم وتحويلها إلي عشش، مؤكدين أن سبب انهيار المنازل في المنطقة هو بناؤها بطريقة عشوائية دون تخطيط أو رسم هندسي أو أساسات ودون أعمدة خرسانية أو حديد تسليح، إضافة إلي تشييدها فوق أرض مرتفعة واقعة أعلي آثار رومانية.
الصعود إلي العشش يتطلب منك صعود تل من القمامة، لتجد مجموعة من الغرف - المتراصة فوق أنقاض بيوت - الواحدة منها تضم أسرة كاملة مكونة من خمسة أفراد علي الأقل، تهاجمهم كل يوم الثعابين والفئران، التي لم يسلم أبناؤها منها، فيقول الحاج علي: " الفار عض بنتي، واتحجزت في المستشفي وأخذت 21 حقنة، وعملت محضر إثبات حالة لما نتعرض له في العشش، فنحن هنا أكثر من 30 سنة يعدوننا ويصوروننا.. ولا يحدث شيء، احنا عايزين نعيش زي ما الناس عايشة، أنا عايش في أوضة واحدة مع عيالي الخمسة، عايشين في وباء بسبب الصرف الصحي الذي ترميه علينا البيوت، وكأننا هنا لا شيء".
في زوايا العشش الضيقة يلعب أطفال معرضون كل لحظة إلي الموت لاحتمالية سقوط أي عشة عليهم كما حدث الأسبوع الماضي، كما أنهم معرضون للسقوط في حفرة نتيجة للهبوط الأرضي المفاجئ، والذي يتفاداه الأهالي بوضع غطاء خشبي عليه، الجميع هناك تعود علي الموت بل لا يعيره اهتماماً، فحياتهم التي يعيشونها ليست بحياة. وفي عشة يتشح نساؤها بالسواد، ترقد الحاجة كتكوتة علي المصطبة كحارس لبناتها الأربعة بعد موت زوجها السائق الذي لم يترك لهن شيئا حتي ولو كان الستر، تفكر في الأيام التي تحل عليها دون دخل تنفق به علي بناتها، تسترسل: "مش عايزة حاجة غير معاش أصرف منه أنا وبناتي، لأني مستحيل أتركهن للعمل، أو أخرج أنا للعمل، فأنا لا أطمئن علي وجودهن بالعشة وحدهن، ولا أطمئن عليهن بالخارج، البلطجية في كل مكان، وأنا بخاف علي بناتي ومن المغرب بلمهم في العشة".
"كنبة متهالكة.. غسالة قديمة.. دولاب صغير يحتوي علي ملابس قديمة" كل هذا مكونات العشة هناك، التي يمكن أن تتسع لعائلة أخري سقطت عشتهم فوق رؤوسهم، كما الحال في عشة أم عبد الرحمن التي تستضيف أختها بعد أن سقط السقف علي رأسها، قائلة بمنتهي الرضا: "العشة تسع من الحبايب ألف!"، لتجعلنا نسأل: "هي عشة أم مقبرة!"، لترد بتلقائية: " هيا مقبرة فعلاً.. تحتنا آثار رومانية.. وبسببها مات المئات هنا تحت الأنقاض.. وسوف يكون مصيرنا مثلهم". أم عبد الرحمن المتزوجة من رجل وصفته بأنه "علي باب الله"، تعيش بدخل 10 جنيهات يومياً يكفيها هي وأسرتها الكبيرة، ولا تطلب الزيادة من الله أو زوجها.
مأوي الصيادين.. بؤر البلطجة والمخدرات
وفي منطقة مأوي الصيادين التابعة لمينا البصل حي غرب، يقطن أغلب البلطجية وتجار المخدرات، والتي حذرنا الكثيرون من دخولها، وعندما اقتربنا منها استقبلنا عم عوض الذي نصحنا أن ندخل بصفة باحثين وليس صحفيين، حتي لا يعتدي علينا أحد، وبالفعل كانت نصيحته جرس إنذار لنا، إذ اعترضنا عدد من متعاطي المخدرات وسألونا عن سبب وجودنا، وعندما رددنا عليه مانصحنا بها عم عوض، قالوا: "منطقتنا زي الفل.. لا عايزين بحث ولا غيره"، وابتعدنا عنهم ودخلنا في حارة أخري، وهناك استطعنا أن نتحدث مع بعض من الأهالي الذين اشتكوا عدم قدرتهم علي الحياة التي وصفوها ب " غير آدمية".
وشرح لنا عم عوض تدهور حال المنطقة قائلاً إنها تضم حوالي 1500 أسرة يصل عددهم إلي 12600 مواطن، يعيشون في بلوكات مساحة البيت فيها 30 مترا، ومع مرور الزمن تحولت الشوارع الضيقة والمتداخلة إلي بؤر لتجارة المخدرات والبلطجة وغسل السيارات بجانب سيطرة مافيا الأراضي علي بحيرة مريوط المتاخمة للمنطقة ليقيموا عليها عمارات سكنية أو يبيعونها كمبان مخالفة لراغبي السكن. ما جعلنا نخاطب المحافظة لأجل أن تمنحنا 63 ألف فدان من تلك الأراضي عبر التعاقد بينها وبين الأهالي ليقيموا عليها سكناً آدمياً.
وأكد محسن محمد، من أبناء المنطقة والذي يعاني من فشل كلوي، أن السكان يعانون أشد المعاناة من الفقر والأمراض والبلطجة، دون أن تلتفت الحكومة إلينا، والبيوت هنا لا يوجد بها منافذ للتهوية ما يجعلنا نتعرض لحالات الاختناق خصوصا في وجود أنابيب البوتاجاز، مطالباً بأن يكون هناك مشاريع تعالج البطالة بدل أن يلجأ أهالي المنطقة إلي تجارة المخدارت، وصرنا نشكل تهديدا علي المناطق المجاورة والإسكندرية بأكملها.
وعندما تجولنا ب "مأوي الصيادين" وجدناها مكونة من شارع واحد والباقي عبارة عن حارات ضيقة، حتي إنه يصعب أحيانا أن يسير اثنان بجوار بعضهما البعض، فلا يتعدي عرض الشارع المترين، ورغم ذلك فإن الإهمال والقاذورات هما المظهر الدائم لهذه الشوارع.
أقبح مدن العالم
وعن سبب انتشار العشوائيات في الإسكندرية يقول الدكتور محمد عوض، رئيس مركز دراسات الإسكندرية والبحر المتوسط بمكتبة الإسكندرية وأستاذ العمارة، إن عروس البحر المتوسط أصبحت من أقبح مدن العالم، إذ وصل تدهور مستوي المعيشة إلي أن يعيش 60٪ من سكانها في سكن غير آدمي، فخلال ال 60 سنة الماضية لم يحدث للمدينة أي تخطيط عمراني يسمح بامتدادها، ما أدي إلي زيادة كثافتها وبنائها عما هو مخطط لها في الأساس بحيث إنها كانت تسع لحوالي من 500 إلي 700 ألف نسمة. وهي الآن تحوي 5.5 مليون نسمة، وهذا أدي إلي زيادة المناطق العشوائية، وانهيار البنية الأساسية والتحتية.
ويضيف أستاذ العمارة إن غياب القانون أدي إلي زيادة وانتشار المخالفات سواء بالبناء في المناطق العشوائية أو بزيادة الأدوار عن الحد المصرح به. ويتم ذلك عن طريق المقاولين عديمي الخبرة في المجال بالاتفاق مع العاملين في المحليات والذين لا يحولون المخالفات للقضاء ليأخذ مجراه مع المخالفين، وبالتالي لا يعاقب أحد علي فعلته. مشيراً إلي أنه في حالة حدوث أي هزة أرضية بالإسكندرية ستكون كارثة بكل المقاييس؛ لأن المباني "متلصمة"، فكل ما يهم المقاول هو بناء الأدوار بسرعة، ولذلك تشد الخراسانات دون تركها المدة الكافية، بحيث يتم قيام الدور في أسبوع واحد، مما سيؤدي إلي مشاكل عمرانية وإلي سقوط العمارات دون أن تنتظر أي هزة أرضية أو حتي تتأثر بعوامل تعرية.
بعد أن تحول من سوق العطارة إلي الموبيليا
»العطارين«.. رائحة تقاوم الضياع!
لسبب ما لا يعرفه سوي التاريخ.. ولسر دُفن مع أجدادنا القدامي، طمست الأيام معالم كثير من الأماكن، إلي أن صار اسمها لا يدل عليها، لكن يظل لكل مكان رائحة تعبق الأزقة والحواري، لتذكر سكانها من حين لآخر بقيمة ما ينتمون إليه، كما الحال في حي العطارين - ثاني أكبر الحواضر المصرية - الذي تعتبره "عروس المتوسط" كل شيء، بعد رحيل ناسه الذين لم يتركوا سوي بعض من بيوت قديمة تحمل بين شروخها حكايات الماضي، وبعض من الأبناء يتوجعون لأجل ما يفقدونه كل يوم من تاريخ وآصالة.
ورغم كل هذا مازال المكان يتشبث بجماله وألفته، فعندما تسوقك الأقدار إلي هناك تجد نفسك في جاليري مفتوح، يأسرك فيه هوس اقتناء التحف، إذ تحول حي العطارين الشعبي إلي سوق للموبيليا القديمة والأنتيكات بعد أن كان قديماً أكبر مركز تجاري مهم للعطور والتوابل، حيث يرجع البعض تسمية الحي بهذا الاسم لوجود سوق (العطارين) بوسط الإسكندرية، خاصة في ظل الفتح العربي لمصر، وبمرور الزمن، اختفت دكاكين العطّارين وظهرت محال الأنتيكات والأثاث القديم في خمسينات القرن الماضي، التي قامت علي بيع ممتلكات الأجانب الذين غادروا المدينة، من الشوام والمغاربة والأتراك والأرمن واليونانيين والإيطاليين واليهود والمالطيين.
بينما ينسب البعض تسمية الحي إلي سيدي محمد العطار المدفون في جامع العطارين، والذي يختلف تصميمه الإسلامي عن الذوق الأجنبي الذي صممت به البيوت والمحلات القديمة التي لازال أغلبها موجوداً. وقد بُني الجامع علي أنقاض كنيسة القديس إثناسيوس الذي ظهر في زمن انتقال المسيحية من مرحلة الاضطهاد والتعذيب إلي مرحلة الدراسة، حيث كان هناك خلاف كبير نشأ بين المسيحيين في تفسير المسيحية وكانت أولي بوادره في الإسكندرية باعتبارها من أكبر مراكز انتشار المسيحية في العالم، حتي أن الفرنسيين عندما جاءوا إلي مصر أطلقوا علي الجامع "جامع القديس إثناسيوس".
رائحة تقاوم الضياع
إنها رائحة التوليفة البشرية التي كانت تعيش في الحي من مختلف الجنسيات؛ إذ تري ذلك في تفاصيل البيوت، تصميم المحلات، اللافتات التي لم تستغن عن أسماء أصحابها الأصليين، فيوجد محل "بولس شوحا" اللبناني الأصل من أشهر محال الأحذية في الإسكندرية، و"بياصة الشوام" التي تعد من أهم المناطق المميزة لحي العطّارين، و"البياصة" باللهجة الإسكندرانية كلمة محرّفة عن كلمة "لا بياتزا" la piazza الإيطالية التي تعني "الميدان" أو "الساحة"، وأشهر المحال فيها مطعم "ملك السمّان" لصاحبه اللبناني الأصل إلياس، وهو المطعم الوحيد بالإسكندرية الذي يشتهر بتقديم السمّان المشوي بخلطة الزعتر.
ومن أبرز معالم العطّارين، التي مازالت تحتفظ بملامح فنون العمارة الأوربية، "المؤسسة الثقافية اليونانية" بشارع "سيدي المتولي"، التي كانت في الأصل مدرسة "أفيروف" الثانوية للبنات، ويعود تاريخها لأكثر من مائة سنة. كما توجد في الحي الكنيسة الإنجيلية التي يعود تاريخها إلي عام 1854 والمدرسة الألمانية لراهبات القديس شارل بوروميه، وعمارة "ليبون" الخاصة بشركة توزيع الكهرباء الفرنسية بالإسكندرية.. التي أدخلت أول عداد كهرباء عام 1895.
وما إن تبدأ جولتك بين أزقة الحي وشوارعه المخططة بإبداع شديد، تكتشف مدي تبدل أحواله؛ إذ اسُتبدلت البيوت القديمة بعمارات شاهقة، كما اختفت اللغات واللهجات التي كانت تٌميز الحي، بعد أن أصبح غالبية قاطنيه من مهاجري الصعيد، فيقول الحاج علي أبو الحمد، إن البيوت تعاني من تدهور شديد، لانتهاء عمرها الافتراضي، وعدم تنفيذ قرارات الإزالة التي تصدر بشأنها، ما يجعلنا نعيش في فزع بسبب حالات التصدع التي تتعرض لها من وقت لآخر، ولأن سكان تلك البيوت من متوسطي الحال فاضطر الكثيرون منهم إلي الاستعانة بالمقاولين الذين يقومون بإزالة البيوت وبناء عمارات شاهقة بدلاً منها - والتي يكون بعضها غير مُرخص - مقابل منح صاحب البيت طابقين، حسب الاتفاق فيما بينهما.
ويشير الحاج علي إلي أن الصعايدة هم من قادوا ثورة المباني، إذ جاءوا من بلادهم وعيونهم علي امتلاك أراض وعمارات، متابعاً: "لم يكن الصعايدة يملكون شبراً في العطارين، جاءوا سريحة صغاراً منذ 40عاماً، ولم يتخط عددهم العشرات، كان وقتها السوق قد استتب لأولاد البلد من الإسكندرانية كزيزو، وأحمد الفيل، وإبراهيم مفتاح، والذين كانوا يسخرون من الصعايدة، لكن مع مرور الوقت أتي الصعايدة بعائلاتهم وامتلكوا مقاليد سوق العطارين من أولاد البلد الإسكندرانية الجدعان"، ومن أشهر عائلات الصعايدة التي تقطن الحي وأعرقها حالياً عائلة "العرابة"، وهم اليوم أكبر تجار للأثاث في العطّارين.
حي علي التجارة
إنها رائحة الرزق التي تحتل كل شبر في حي العطارين وليست رائحة الأجانب أو العطارة، فلا يوجد مكان لا يشغله محل، ولا يوجد رجل لا يحترف مهنة، الجميع هنا يسعي إلي أن يبقي حي العطارين مركزا تجاريا كبيرا. وقد أدي اختفاء مهنة العطارة إلي ظهور محلات أخري للساعات والموبيليا والذهب والأنتيكات والنجف، وقد تحدثنا إلي عدد منهم لمعرفة التغيرات التي طرأت عليهم خلال السنوات الأخيرة، وما إن بدأ أحدهم يؤكد لك أن كل شيء تغير؛ الناس والمكان.
وفي سوق الموبيليا المستعملة تصطف المحال بطريقة منظمة لتناسب عمالا يجددون البضاعة في هدوء وبراعة، دون أن يصيبهم اليأس من حالة ركود السوق، فيقول محمد كامل، أحد تجار الموبيليا، إن الحركة التجارية بها ركود شديد، خصوصاً بعد الثورة، نتيجة للانفلات الأخلاقي الذي عطل عملية البيع والشراء، كما أن السوق يرتبط بحالة الدولة والمعيشة، مضيفاً أنه من قبل ذلك وهناك حالة من الخسارة التي انتابت التجار بسبب الموبيليا الصيني، والتي جعلت الكثيرين يستغنون عن الموبيليا المستعملة، التي تعد أكثر ضمانة، إضافة إلي أن بعضها تم تصميمه علي الطراز القديم الذي يبحث عنه الأغنياء.
كل أبناء العطارين "ولاد سوق" بالمعني الحرفي، يتباينون في درجات الشطارة، لكنهم يتفقون في اللسان الحلو وخفة الدم التي تفرضها متطلبات البيع، فعندما انتقلنا إلي سوق الأنتيكات، دخلنا أحد المحلات القديمة، والتي يبلغ صاحبها من العمر قرابة 70 عاماً، وفور سؤالنا عن اسمه، أجاب بتلقائية: "اسمي علي جسمي"، لحقناه بسؤال آخر: منذ متي تعمل في هذه المهنة؟، قال: "منذ 52 عاما عندما كنا نتشري الأنتيكات من اليهود، أما الآن فنقوم بتجميعها من البيوت القديمة، وعلي حسب الحالة، وهناك محال في شارع الليثي تأتي ببضاعتها من فرنسا، التي قامت مؤخراً بتقليد الأنتيكات وتوريدها للتجار علي أساس أنها أصلية، والتي يطلقون عليها "كوبيا"، بينما الأنتيكات الأصلية تعرض في المعارض".
ويجاوره تاجر آخر يدعي فرحات أحمد حسن، والذي عندما سألته عن سبب عمله في مهنة الأنتيكات، ظننت أنه سيعلن عن حبه لها، أو أنه توارثها من أبيه وجده، لكنه أجاب: " تضييع وقت.. إنت عارفة إن تضييع الوقت مهم.. أجيبلك شاي!".
ومثلهم يعاني سوق الملابس المستعملة من ركود بسبب الحالة الاقتصادية، ما يدفع التجار وأصحاب المحلات إلي بيع بضاعتهم في سوق "الكانتو"، أهم وأكبر وأقدم سوق للملابس المستعملة بالإسكندرية، فيقول الحاج محمد هاشم الذي يبلغ من العمر62 سنة، "سوق العطارين أول سوق يبيع ملابس مستعملة في إسكندرية كلها، وبمرور الوقت انتشرت المهنة في باقي المدينة، والتي علي إثرها قل الإقبال علينا، ما جعلنا نتحول من منطقة تجارية إلي منطقة عمالية"، موضحاً أن هناك فرقا بين الملابس المستعملة والبالة، فالأولي يحصلون عليها من تجار الروبابيكيا والثانية يتم استيرادها من الخارج.
بينما أكد المعلم علي، أحد كبار تجار الملابس المستعملة، أن أغلبهم يعانون من حالة إفلاس نتيجة لركود السوق، ما جعلت محلاتهم تعج بالبضائع التي يقبل عليها أي زبون، مضيفاً: "بنبيع برخص التراب، وبنضطر كل أسبوع نسافر إلي الأسواق في المحافظات الأخري بحثاً عن زبون يُبعد بيننا وبين الإفلاس".
شركات البترول لوثت البحر وسممت خيره
صيادو المكس.. مهاجرون بلا عودة
»يا إسكندرية بحرك عجايب.. يا ريت ينوبني من الحب جانب« غناها الفنان محمد منير دون أن يعرف أنها ستصبح يوماً لسان حال صيادي إسكندرية، الذين يفترشون الشواطئ بمراكبهم مع طلعة الشمس مٌتحسرين علي ما حل بهم من فقر؛ سواء للبحر أو لبيوتهم، ما دفع الكثير منهم للخروج إلي سواحل عربية أو أجنبية للصيد، وهم يعرفون أن سفنهم غير مؤهلة لذلك، وأن احتمال عودتهم ربما يكون مستحيلا. وفي المكس حيث الحي الذي يقطنه أغلب الصيادين، قد يخدعك للوهلة الأولي حياتهم التي تبدو ساحرة؛ بيوت تصطف علي جانبي قناة مائية، ومراكب ملونة بالأخضر والأزرق تتراقص بخفة، لكن عندما تقترب من شاطئها تعرف لماذا اختفت الأسماك من مياه "فينسيا الشرق"، كما يطلقون عليها.
الرائحة الكريهة وحدها تفضح حجم المأساة التي تعيشها المكس، التي تحولت إلي صرف صحي كبير، إذ تلقي شركات البترول والبتروكيماويات صرفها وسمومها في البحر، إضافة إلي أن الصرف الصحي للمساكن يصب في مياه الخندق، ما أدي إلي تسمم المياه وموت السمك، فيقول الريس أبو حامد - أحد الصيادين - »إن أسماك المكس مصابة بملوثات الكبريت والماغنسيوم ما أدي إلي نفور المستهلك منها، مضيفاً: "كنا زمان بنأخدوا السمك بإيدينا من كتره، وبنشربوا من المياه دي، لكن الحال اتغير، وبدل ما كنا بنصدروا السمك بقينا نستورد، دلوقتي أهم حاجة الجيني (الجنيه)، 01 يكونوا أغنياء ومدينة بأكملها تجوع، المفروض يكون فيه شبكة للصرف الصحي، وشبكة تانية للصرف الصناعي، بعيد عن البحر".
ويحكي الريس سعيد الحال الذي وصلوا إليه، قائلاً إن الصيادين الغلابة يضطرون إلي أن يقطعوا من 5 إلي 01 كم2 داخل البحر حتي يتمكنوا من الصيد، بعد أن كانوا يلقون بالشباك من علي الشاطئ، بينما من يمتلك سفينة يلجأ للخروج إلي سواحل ليبيا وايطاليا وتونس ومالطة لصيد شتي أنواع الأسماك، وهم يعرفون أنهم قد لا يعودون، متابعاً: "لم أشعر يوماً بأن البحر هو وطني، لأنه غدار ولا أمان له، خطف مننا كتير.. أعمام وأصدقاء وأبناء".
ويصنف الريس سعيد الرزق وفق حجم المراكب؛ " المركب الصغير يشتغل عليها 4 صيادين يصطادون سمك بحوالي 051 جنيها في 5 رحلات في اليوم، أما المركب الكبير يعمل عليها 71 صيادا ودي رزقها واسع حوالي 001 ألف جنيه، والرحلة تستغرق 23 يوما"، متطرقاً إلي مشكلة آخري تواجه الصيادين وهي الحصول علي التراخيص الرسمية الخاصة بمركب جديد، والتي أصبحت تمثل أزمة خصوصاً لصيادي المكس حيث تتهالك مراكبهم بحكم الزمن، ما يجعلهم بحاجة إلي الحصول علي رخصة مراكب بديلة لها، والتي تمر بخطوات معقدة وطويلة تستغرق سنة أو أكثر.
وإلي شيخ الصيادين ويدعي العزب، وجدناه يجلس أمام الشاطئ بشعره الأبيض الطويل، يتأمل البحر في صمت، دون مركب أو شبكة، وكأنه فنان خرج من فيلم دراماتيكي قديم، وعندما اقتربنا منه قال وهو يلقي نظرة علي البحر: "زمان كان فيه خضرة وطحالب عالقة وبكتيريا يتغذي عليها السمك، الآن أصبحت غير موجودة بفعل مخلفات الصرف التي تلقيها المصانع في مياه المتوسط دون معالجة"، وعن الذي تغير في الصيد قال "المهنة اتطورت فقط، زمان كان السمك كتير والفلوس قليلة لكن الصياد كان بيقدر يعيش، دلوقتي السمك قليل وفيه فلوس لكن مش كفاية، والمعاش 003 جنيه هيعملوا ايه!؟".
وعن تسسم السمك، قال لابد أن نفرق بين الأسماك التي تُسمم بفعل تلوث البحر، والأسماك التي يدعون أنها مُسممة، النوع الأول عرفنا سببه، أما الثاني فهناك سوء فهم من ناحيته، وأقصد بالتحديد سمك القراط، الذي أشيع عليه أنه مُسمم، رغم إن أهالي إسكندرية يعيشون عليه لأن "أكله زي العسل"، موضحاً أن له طريقة خاصة في النظافة، وهي إزالة مرارته التي لو انفجرت فيه لسمم كل من يأكله، وقد اقترحنا علي المسئولين أن يقوم الصيادون بخلي السمك وتنظيفه قبل أن يخرج إلي أسواق القاهرة، لكنهم رفضوا ومنعوا صيده، وفي الآخر بيتم تهريبه للأسواق، مدللاً أن سمك القراط يٌباع منه يومياً حوالي 007 ألف كيلو، كما أنه أكثر أنواع الأسماك في بحر إسكندرية، بعد أن ألقته إسرائيل في مياهنا منذ 6 سنوات، مٌتابعاً: "أنا عندي 86 سنة وعمري ما شفت سمك القراط غير من 6 سنين، وهو سمك مؤذ يقوم بقرط كل الأسماك، ما يسبب موت أنواع كثيرة، ومن فترة تم اصطياد سمكة قراط تبلغ حجمها 41 كيلو، وممكن يصل حجمها إلي002 كيلو، وبعد كدا قولوا علي البحر السلام".
وفي إحدي حلقات السمك، وجدنا ما يعانيه الصيادون من قلة الرزق منعكسا علي الباعة، الذين قل عددهم لعدم وجود سمك، فيقول أبو كريم أحد الباعة بالحلقة: " انخفاض رحلات الصيد يؤثر علي الحلقة بشكل سلبي إذ يضطر أغلبنا إلي بيع الأسماك المجمدة علي أنها طازجة بأسعار مرتفعة، وهذه الظاهرة جديدة علي الحلقة بسبب انخفاض إنتاجية البحر من الأسماك".
بمجرد أن تجد هياكل السفن المتراصة علي الشاطئ، تعرف أنك في منطقة الأنفوشي، التي اشتهرت قديماً بصناعة السفن، حيث توارث أهلها المهنة عن أجدادهم، وبرغم أنهم لم يدرسوا تقنيات تصنيع اليخوت، إلا أنهم وبالفطرة أصبحوا أمهر صانعيها، وذاع صيتهم في شتي أنحاء العالم، حتي أن أثرياء أوروبا كانوا يأتون إليهم لاختيار اليخوت الخاصة بهم للتنزه بها عند وجودهم في مصر، كما أنها كانت ترسانة تشتمل علي جميع ما يلزم لإنشاء وترميم المراكب الحربية في عهد محمد علي باشا، لكن الآن تحولت إلي ورش خشبية مهملة وهياكل سفن في انتظار أن يدب البحر الروح فيها.
يجمع صانعو السفن علي أن السبب الرئيسي وراء تدهور مهنتهم هو تغير الناس وعدم رغبة الأبناء في تعلم مهنة آبائهم وأجدادهم، فيقول المعلم طٌلبة: "الشغلانة دي من أيام جدودنا، ورثناها أباً عن جد، لكن ولادنا مش بيشتغلوا فيها، لأنها مابتأكلش عيش، إحنا كنا أكبر حوض لصناعة السفن في الشرق الأوسط دلوقتي خلاص ما عدش في حاجة نعملها"، مشيراً إلي أن إجراءات التراخيص من ضمن أسباب تدهور المهنة، فمنذ أكثر من 01 سنوات تم وقف ترخيص اللنشات ومراكب الصيد، ما أدي إلي وقف الطلبات التي كانت تأتينا من كل الجنسيات.
وعن الخامات التي يتم تصنيع تلك المراكب منها، يقول الأسطي حميدو أنهم يستخدمون الخشب المحلي والمستورد، الأول في صناعة هياكل السفن، والثاني لبقية الأجزاء، موضحاً أنهم يقومون برسم السفينة في البداية علي الخشب لأن أي خطأ في الصناعة يكون سبباً كافياً لغرق السفينة، وأن الأنواع التي يصنعونها هي مراكب سياحة ومراكب صيادة ومراكب سفر تُصنع للسعودية، ولكل منها فورمة معينة، متابعاً: "مدة صناعة المركب حوالي شهرين، ولما نخلص الشغل نقعد في بيوتنا لحد ماتيجي طلبية تانية، وهناك ورش قفلت لقلة الزبائن، المهنة في النازل، ومابقاش فيه طلب علي المراكب، أنا كمان باجي بالطلب من رشيد، لأني في الأساس نجار، اتعلمت المهنة لكن لم أهوها".
ويتحسر رضا أبو شنب أحد أشهر صناع السفن في الأنفوشي، علي صناعة السفن قائلاً: " قديما كانت الصناعة تجذب عدداً كبيراً من السياح ليروا تلك المهنة التي لا توجد في بلدان كثيرة من العالم، وكانت الإسكندرية تمتلك أكبر حوض لصناعة السفن في البحر المتوسط، وفي العالم، أما الآن، فالإهمال والقوانين المجحفة جعلت المهنة في طريقها للانقراض". مضيفاً أن من أسباب معاناة المهنة هو ارتفاع أسعار الأخشاب المستخدمة في بناء السفن، وهي أخشاب التوت والكافور والسنط، إلي أن وصل المتر ل0022 جنيه دون أن تتدخل الدولة لضبط تلك الأسعار أو دعمها، كما أن العاملين في صناعة السفن معرضون للعديد من الأخطار أثناء العمل، وعندما يصلون إلي سن التقاعد لا يجدون ما يستطيعون العيش به.
أما صيانة السفن فيوجد لها ورش مخصصة بمنطقة الأنفوشي أيضاً، والتي تعمل كل أسبوعين علي حسب المراكب التي تحتاج إلي صيانة، فيقول مُحسن أبو شنب: "هنا رفع السفن من البر إلي البحر، وتعتبر مرساة للسفن التي تحتاج إلي صيانة، وكل مركب يتم تصليحه كل 6 شهور، وعلي حسب رغبة صاحبه، فهناك من يهمل ولا يعتني بها، الأمر الذي أدي إلي كثرة حوادث الغرق خلال الشهور الأخيرة"، مشيراً إلي أن الصيانة الأولي للسفينة الجديدة تكون بعد 5 سنين من إبحارها.
وفي إحدي الورش يقطن المعلم خميس خليل، رائد صيانة مواتير المراكب، في أسي شديد، لركود حاله علي وجه الخصوص، بعد أن تمرد عليه كل صبيانه، وصاروا يتآمرون عليه عبر إقناع الزبائن بعدم الذهاب إليه، فيقول: "عمري كله في المهنة، ورثتها من والدي، واشتغل تحت يدي كل الصبيان ولما كبروا بقوا ضدي، ولا يعترفون بي، يوم من الأيام كانت كل مراكب الإسكندرية تبعي في الصيانة، ومن سنة 2991 بدأ الوضع يختلف، أنا ميكانيكي صاحب ورشة.. مش معقول أشتغل عند حد أنا علمته.. أنا مستعيب أقول إني بقعد بالشهر مش بدخل جنيه، وبكون حزين إني مش عارف أصرف علي بيتي وأولادي، وبرجع من الشغل من غير ما إيديا تتوسخ، وكل اللي محتاجه معاش يسندني من غدر الأيام".


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.